يتم التشغيل بواسطة Blogger.
RSS

نبذة سريعه عن الجن وخلقه

وان نعود الى الكلام عن الجن هذا العالم الذي خلقه الله تعالى كما خلق عالم الانس وعالم الملائكة فقد اخبرنا الله تبارك وتعالى انهم خلقوا من نار فقال:(والجان خلقناه من قبل من نار السموم) وقال تعالى:( وخلق الجان من مارج من نار) ومارج النار طرف اللهب، وقال النبي صلى الله عليه وسلم (خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من نار وخلق آدم مما وصف لكم) رواه مسلم.. ويضيف فضيلته ان خلق الجن متقدم على خلق الانسان فكانوا قبلهم في الارض بدليل قوله تعالى (ولقد خلقنا الانسان من صلصال من حمأ مسنون والجان خلقناه من قبل من نار السموم)..مضيفا كذلك ان الجن سموا جناً لاستتارهم (فلما جن عليه الليل) واستجن بالشيء اي اتقى به واختفى وراءه، واخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن اصنافهم وعن شيء من قدراتهم فقال في الحديث الصحيح (الجن ثلاثة اصناف، صنف يطيرون في الهواء وصنف حيات وكلاب وصنف يحلون ويضعنون) فأخبرنا بقدرتهم على الطيران وعلى التشكل في هيئة حيات وكلاب ولا مجال للتكذيب بعالم الجن البتة، ومن انكر وجود الجن فهو كافر، لانه كذب الله تعالى الذي قال في محكم تنزيله (قل اوحي الي انه استمع نفر من الجن) فالمكذب بوجود الجن كافر، ولم يكذب به الا طائفة من الفلاسفة والعقلانيين، وبعضهم زعموا ان الجن نوازع الشر في النفس البشرية وانهم ليسوا خلقاً مستقلاً وانكروا وجودهم وهؤلاء ولا شك ضلاّل فان المعرض عن كلام الله ورسوله لا يكون الا ضالاً، فقد اخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم (انه التقى بهم ودعاهم الى الله تعالى وقال انه اتاني وفد نصيبين وهي بلدة ونعم الجن، فسألوني الزاد فدعوت الله لهم الا يمروا بعظم ولا روثة الا وجدوا عليها طعاماً).. فكان منهم المؤمنون الذين انطلقوا في الارض يستمعون لاي شيء يدل على سبب منع استراق الخبر من السماء، (واذ صرفنا اليك نفراً من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا انصتوا، فلما قضي ولوا الى قومهم منذرين قالوا يا قومنا انا سمعنا كتاباً انزل من بعد موسى) ودعوا قومهم الى الله تعالى وكان منهم الفقهاء.. ولما قرأ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن فكان اذا مر بقوله تعالى (فبأي آلاء ربكما تكذبان) قالوا:( ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد). مؤكداً الشيخ المنجد ان كثيراً منهم كفار وضلال وفسقة ولذلك فإنهم شياطين، وهم كثيرون جداً، وكانوا يسترقون الخبر من السماء يركب بعضهم فوق بعض ليستمعوا الخبر من السماء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:( اذا قضى الله الامر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كالسلسلة على صفوان يعني كصوت جر السلسلة على الصخرة وهو صوت عظيم فاذا فزّع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا الحق وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترقوا السمع فالجن الذين يركب بعضهم فوق بعض الى السماء يستمعون شيئاً من كلام الملائكة عن اوامر الرب في مرض فلان او شفاء فلان او موت فلان او زلزال في مكان كذا ونحو ذلك من الاحداث الارضية فيسمعها مسترقو السمع ومسترقو السمع هكذا واحداً فوق الآخر.. قال النبي صلى الله عليه وسلم: فربما ادرك الشهاب المستمع قبل ان يرمي بها الى صاحبه، اي الذي تحته يخبر بعضهم بعضا فيحرقه، وربما لم يدركه اي الشهاب حتى يرمي بها الى الذي يليه، الى الذي هو

  • Digg
  • Del.icio.us
  • StumbleUpon
  • Reddit
  • RSS

كتاب النبـــــــوات

المؤلف : أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني أبو العباس
وفي هذه الصفحة نص ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية
في فصلين من كتاب النبوات
وتم إعادة وترتيب وصف الأسطر بواسطة

الأول : فصل خوارق الكهان والسحرة ليست من خوارق العادات وإنما من العجائب الغريبة
فصل في معنى خرق العادة وأن الاعتبار أن تكون خارقة لعادة غير الانبياء مطلقا بحيث تختص بالانبياء فلا توجد الا مع الإخبار بنبوتهم وأما إخبار الكهان ببعض الامور الغائبة لإخبار الشياطين لهم بذلك وسحر السحرة بحيث يموت الانسان من السحر أو يمرض ويمنع من النكاح ونحو ذلك مما هو باعانة الشياطين فهذا أمر موجود في العالم كثير معتاد يعرفه الناس ليس هذا من خرق العادة بل هو من العجائب الغريبة التي يختص بها بعض الناس كما يختص قوم بخفة اليد والشعبذة وقوم بالسباحة الغريبة حتى يضطجع أحدهم على الماء وكما يختص قوم بالقيافة حتى يباينوا بها غيرهم وكما يختص قوم بالعيافة ونحو ذلك مما هو موجود ولهذا كان مكذبو الرسل يجعلون آياتهم من جنس السحر وهذا مستقر في نفوسهم أن الساحر ليس برسول ولا نبي كما في قصة موسى لما قالوا ان هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحرة فماذا تأمرون قال تعالى :  كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون ، وهذا لحيرتهم وضلالتهم تارة ينسبون إلى الجنون وعدم العقل وتارة الى الحذق والخبرة التي ينال بها السحر فان السحر لا يقدر عليه ولا يحسنه كل أحد لكن العجائب والخوارق المقدورة للناس منها ما سببه من الناس بحذقهم في ذلك الفن كما يحذق الرجل في صناعة من الصناعات وكما يحذق الشاعر والخطيب والعالم في شعره وخطابته وعلمه وكما يحذق بعض الناس في رمي النشاب وحمل الرمح وركوب الخيل فهذه كلها قد يأتي الشخص منها بما لا يقدر عليه أهل البلد بل أهل الاقليم لكنها مع ذلك مقدورة مكتسبة معتاده بدون النبوة قد فعل مثلها ناس آخرون قبلهم أو في مكان آخر فليست هي خارقة لعادة غير الانبياء مطلقا بل توجد معتادة لطائفة من الناس وهم لا يقولون انهم أنبياء ولا يخبر أحد عنهم بأنهم أنبياء ومن هنا دخل الغلط على كثير من الناس فإنهم لما رأوا آيات الانبياء خارقة للعادة لم يعتد الناس مثلها اخذوا مسمى خرق العادة ولم يميزوا بين ما يختص به الانبياء ومن أخبر بنبوتهم وبين ما يوجد معتادا لغيرهم واضطربوا في مسمى هذا الاسم كما اضطربوا في مسمى المعجزات ولهذا لم يسمها الله في كتابه إلا آيات وبراهين فإن ذلك اسم يدل على مقصودها ويختص بها لا يقع على غيرها لم يسمها معجزة ولا خرق عادة وان كان ذلك من بعض صفاتها فهي لا تكون آية وبرهانا حتى تكون قد خرقت العادة وعجز الناس عن الإتيان بمثلها لكن هذا بعض صفاتها وشرط فيها وهو من لوازمها لكن شرط الشيء ولازمه قد يكون أعم منه وهؤلاء جعلوا مسمى المعجزة وخرق العادة هو الحد المطابق لها طردا وعسكا كما أن بعض الناس يجعل اسمها أنها عجائب وآيات الانبياء اذا وصفت بذلك فينبغي أن تقيد بما يختص بها فيقال العجائب التي أتت بها الانبياء وخوارق العادات والمعجزات التي ظهرت على أيديهم أو التي لا يقدر عليها البشر أو لا يقدر عليها الانس والجن أو لا يقدر عليها الا الله بمعنى أنه لا يقدر عليها أحد بحيلة واكتساب كما يقدرون على السحر والكهانة فبذلك تتميز آياتهم عما ليس من آياتهم وإلا فلفظ العجائب قد يدخل فيه بعض الناس الشعبذة ونحوها ، والتعجب في اللغة يكون من أمر خرج عن نظائره وما خرج عن نظائره فقد خرق تلك العادة المعينة في نظائره فهو أيضا خارق للعادة وهذا شرط في آيات الانبياء أن لا يكون لها نظير لغير الانبياء ومن يصدقهم فإذا وجد نظيرها من كل وجه لغير الانبياء ومن شهد لهم بالنبوة لم تكن تلك من آياتهم بل كانت مشتركة بين من يخبر بنبوتهم ومن لا يخبر بنبوتهم كما يشترك هؤلاء وهؤلاء في الطب والصناعات.

وأما السحر والكهانة فهو من إعانة الشياطين لبني آدم فإن الكاهن يخبره الجن وكذلك الساحر انما يقتل ويمرض ويصعد في الهواء ونحو ذلك باعانة الشياطين له فأمورهم خارجة عما اعتاده الانس باعانة الشياطين لهم قال تعالى :  :  ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الانس وقال أوليائهم من الانس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله فالجن والانس قد استمتع بعضهم ببعض فاستخدم هؤلاء هؤلاء وهؤلاء هؤلاء في أمور كثيرة كل منهم فعل للآخر ما هو غرضه ليعينه على غرضه والسحر والكهانة من هذا الباب وكذلك ما يوجد لعباد الكفار من المشركين وأهل الكتاب ولعباد المنافقين والملحدين من المظهرين للاسلام والمبتدعين منهم كلها باعانة الجن والشياطين لكن الشياطين تظهر عند كل قوم بما لا ينكرونه فإذا كان القوم كفارا لا ينكرون السحر والكهانة كما كانت العرب وكالهند والترك المشركين ظهروا بهذا الوصف لأن هذا معظم عند تلك الأمة وإن كان هذا مذموما عند أولئك كما قد ظهر ذم هؤلاء عند أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى أظهرته الشياطين فيمن يظهر العبادة ولا يكون مخلصا لله في عبادته متبعا للانبياء بل يكون فيه شرك ونفاق وبدعة فتظهر له هذه الامور التي ظهرت للكهان والسحرة حتى يظن أولئك أن هذه من كرامات الصالحين وأن ما هو عليه هذا الشخص من العبادة هو طريق أولياء الله وإن كان مخالفا لطريق الانبياء حتى يعتقد من يعتقد أن لله طريقا يسلكها اليه أولياؤه غير الايمان بالانبياء وتصديقهم وقد يعتقد بعض هؤلاء أن في هؤلاء من هو أفضل من الانبياء وحقيقة الامر أن هؤلاء عارضوا الانبياء كما كانت تعارضهم السحرة والكهان كما عارضت السحرة لموسى وكما كان كثير من المنافقين يتحاكمون إلى بعض الكهان دون النبي صلى الله عليه و سلم ويجعلونه نظير النبي وكان في العرب عدة من هؤلاء وكان بالمدينة منهم أبو برزة الاسلمي قبل أن يسلم كان كاهنا وقد قيل ان الذي أنزل الله تعالى :  فيه الم تر الى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل اليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا الى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا وقد ذكر قصته غير واحد من المفسرين.

 ولما كان الذين يعارضون آيات الانبياء من السحرة والكهان لا يأتون بمثل آياتهم بل يكون بينهما شبه كشبه الشعر بالقرآن ولهذا قالوا في النبي إنه ساحر وكاهن وشاعر مجنون قال تعالى :  انظر كيف ضربوا لك الامثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا فجعلوا له مثلا لا يماثله بل بينهما شبه مع وجود الفارق المبين وهذا هو القياس الفاسد فلما كان الشعر كلاما له فواصل ومقاطع والقرآن آيات له فواصل ومقاطع قالوا شاعر ولكن شتان وكذلك الكاهن يخبر ببعض المغيبات ولكن يكذب كثيرا وهو يخبر بذلك عن الشياطين وعليه من آثارهم ما يدل على أنه أفاك أثيم كما قال تعالى :  هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون ثم قال والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون مالا يفعلون فذكر سبحانه الفرق بين النبي وبين الكاهن والشاعر وكذلك الساحر لما كان يتصرف في العقول والنفوس بما يغيرها وكان من سمع القرآن وكلام الرسول خضع له عقله ولبه وانقادت له نفسه وقلبه صاروا يقولون ساحر وشتان وكذلك مجنون لما كان المجنون يخالف عادات الكفار وغيرهم لكن بما فيه فساد لا صلاح والانبياء جاءوا بما يخالف عادات الكفار لكن بما فيه صلاح لا فساد قالوا مجنون قال تعالى :  كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون فتارة يصفونه بغاية الحذر والخبرة والمعرفة فيقولون ساحر وتارة بغاية الجهل والغباوة والحمق فيقولون مجنون وقد ضلوا في هذا وهذا كما قال تعالى :  انظر كيف ضربوا لك الامثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا فهم بمنزلة السائر في الطريق وقد ضل عنها يأخذ يمينا وشمالا ولا يهتدي الى السبيل التي تسلك والسبيل التي يجب سلوكها قول الصدق والعمل بالعدل .

والكهانة والسحر يناقض النبوة فإن هؤلاء تعينهم الشياطين تخبرهم وتعاونهم بتصرفات خارقة ومقصودهم الكفر والفسوق والعصيان والانبياء تعينهم الملائكة هم الذين يأتونهم فيخبرونهم بالغيب ويعاونونهم بتصرفات خارقة كما كانت الملائكة تعين النبي صلى الله عليه و سلم في مغازية مثل يوم بدر أمده الله بألف من الملائكة ويوم حنين قال ويوم حنين اذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الارض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم وقال تعالى :  ان لا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار اذ يقول لصاحبه لا تحزن ان الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وقال تعالى :  اذ يوحي ربك الى الملائكة إني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب وقد بين سبحانه أن الذي جاء بالقرآن ملك كريم ليس بشيطان فقال إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين وما صاحبكم بمجنون ولقد رآه بالافق المبين وما هو على الغيب بضنين وما هو بقول شيطان رجيم فأين تذهبون.

 ولما كانت الانبياء مؤيدة بالملائكة والسحرة والكهان تقترن بهم الشياطين كان من الفروق التي بينهم الفروق التي بين الملائكة والشياطين والمتفلسفة الذين لم يعرفوا الملائكة والجن كابن سينا وأمثاله ظنوا أن هذه الخوارق من قوى النفس قالوا والفرق بين النبي والساحر أن النبي يأمر بالخير والساحر يأمر بالشر وجعلوا ما يحصل للممرور من هذا الجنس اذ لم يعرفوا صرع الجن للانسان وإن الجني يتكلم على لسان الانسان كما قد عرف ذلك الخاصة والعامة وعرفه علماء الأمة وأئمتها كما قد بسط في غير هذا الموضع والجهمية المجبرة الذين قالوا ان الله قد يفعل كل ممكن مقدور لا ينزهونه عن فعل شيء ويقولون انه يفعل بلا سبب ولا حكمة وهو الخالق بجميع الحوادث لم يفرقوا بين ما تأتي به الملائكة ولا ما تأتي به الشياطين بل الجميع يضيفونه الى الله على حد واحد ليس في ذلك حسن ولا قبيح عندهم حتى يأتي الرسول فقبل ثبوت الرسالة لا يميزون بين شيء من الخير والشر والحسن والقبيح فلهذا لم يفرقوا بين آيات الانبياء وخوارق السحرة والكهان بل قالوا ما يأتي به السحرة والكهان يجوز أن يكون من آيات الانبياء وما ياتي به الانبياء يجوز أن يظهر على أيدي السحرة والكهان لكن ان دل على انتفاء ذلك نص أو إجماع نفوه مع أنه جائز عندهم أن يفعله الله لكن بالخبر علموا أنه لم يفعله فهؤلاء لما رأوا ما جاءت به الانبياء وعلموا أن آياتهم تدل على صدقهم وعلموا ذلك اما بضرورة وإما بنظر واحتاجوا الى بيان دلائل النبوة على أصلهم كان غاية ما قالوا أنه كل شيء يمكن أن يكون آية للنبي بشرط أن يقترن بدعواه وبشرط أن يتحدى بالاتيان بالمثل فلا يعارض ومعنى التحدي بالمثل أن يقول لمن دعاهم ائتوا بمثله وزعموا أنه اذا كان هناك سحرة وكهان وكانت معجزته من جنس ما يظهر على أيديهم من السحر والكهانة فإن الله لا بد أن يمنعهم عن مثل ما كانوا يفعلونه وأن من ادعى منهم النبوة فانه يمنعه من تلك الخوارق أو يقيض له من يعارضه بمثلها فهذا غاية تحقيقهم وفيه من الفساد ما يطول وصفه .

وطاعة الجن والشياطين لسليمان صلوات الله عليه لم تكن من جنس معاونتهم للسحرة والكهان والكفار وأهل الضلال والغي ولم تكن الآية والمعجزة والكرامة التي أكرمه الله بها هي ما كانوا يعتادونه مع الانس فإن ذلك انما كان يكون في أمور معتادة مثل اخبارهم أحيانا ببعض الغائبات ومثل إمراضهم وقتلهم لبعض الانس كما أن الانسي قد يمرض ويقتل غيره ثم هم انما يعاونون الانس على الإثم والعدوان إذا كانت الاناسي من أهل الإثم والعدوان يفعلون ما تهواه الشياطين فتفعل الشياطين بعض ما يهوونه قال تعالى :  ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الانس وقال أوليائهم من الانس ربنا استمتع بعضنا ببعض وأما التسخير الذي سخروه لسليمان فلم يكن لغيره من الانبياء فضلا عمن ليس بنبي وقد سأل ربه ملكا لا ينبغي لاحد من بعده فقال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب قال تعالى :  فسخروا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب والشياطين كل بناء وغواص وآخرين مقرنين في الاصفاد هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب وقال تعالى :  ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره على الارض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا له حافظين وقال تعالى :  ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلناله عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل دواد شكرا وقليل من عبادي الشكور فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين وكذلك ما ذكره من قول العفريت له أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك فهذه الطاعة من التسخبر بغير اختيارهم في مثل هذه الاعمال الظاهرة العظيمة ليس مما فعلته بأحد من الانس وكان ذلك بغير أن يفعل شيئا مما يهوونه من العزائم والاقسام والطلاسم الشركية كما يزعم الكفار أن سليمان سخرهم بهذا فنزهه الله عن ذلك بقوله واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وأما طاعة الجن لنبينا وغيره من الرسل كموسى فهذا نوع آخر فان هذا طاعتهم فيما أمرهم الله به من عبادته وطاعته كطاعة الانس لنبينا حيث أرسل الى الطائفتين فدعاهم الى عبادة الله وحده وطاعته ونهاهم عن معصيته التي بها يستحقون العذاب في الآخرة وكذلك الرسل دعوهم إلى ذلك وسليمان منهم لكن هذا انما ينتفع به منهم من آمن طوعا ومن لم يؤمن فإنه يكون بحسب شريعة ذلك الرسول هل يترك حتى يكون الله هو الذي ينتقم منه أو يجاهد وسليمان كان على شريعة التوراة واستخدامه لمن لم يؤمن منهم هو مثل استخدام الاسير الكافر فحال نبينا مع الجن والانس أكمل من حال سليمان وغيره فإن طاعتهم لسليمان كانت طاعة ملكية فيما يشاء وأما طاعتهم لمحمد فطاعة نبوة ورسالة فيما يأمرهم به من عبادة الله وطاعة الله واجتناب معصية الله فان سليمان كان نبيا ملكا ومحمد صلى الله عليه و سلم كان عبدا رسولا مثل ابراهيم وموسى وسليمان مثل داود ويوسف وغيرهما مع أن داود وسليمان ويوسف هم رسل أيضا دعوا إلى توحيد الله وعبادته كما أخبر الله أن يوسف دعا أهل مصر لكن بغير معاداة لمن لم يؤمن ولا إظهار مناوأة بالذم والعيب والطعن لما هم عليه كما كان نبينا أول ما انزل عليه الوحي وكانت قريش اذ ذاك تقره ولا تنكر عليه إلى أن أظهر عيب آلهتهم ودينهم وعيب ما كانت عليه آباؤهم وسفه أحلامهم فهنالك عادوه وآذوه وكان ذلك جهادا باللسان قبل أن يؤمر بجهاد اليد قال تعالى :  ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا وكذلك موسى مع فرعون أمره أن يؤمن بالله وأن يرسل معه بني إسرائيل وان كره ذلك وجاهد فرعون بالزامه بذلك بالآيات التي كان الله يعاقبهم بها إلى أن أهلكه الله وقومه على يديه

***********************

الفصل الثاني : خوارق السحرة والكهان مناقضة للنبوة ولا تخرج عن مقدور الجن والإنس
فصل فجميع ما يختص بالسحرة والكهان هو مناقض للنبوة فوجود ذلك يدل على أن صاحبه ليس بنبي ويمتنع أن يكون شيء من ذلك دليلا على النبوة فإن ما استلزم عدم الشيء لا يستلزم وجوده وكذلك ما يأتي به أهل الطلاسم وعبادة الكواكب ومخاطبتها كل ذلك مناقض للنبوة فان النبي لا يكون إلا مؤمنا وهؤلاء كفار فوجود ما يناقض الايمان هو مناقض للنبوة بطريق الأولى وهو آية ودليل وبرهان على عدم النبوة فيمتنع أن يكون دليلا على وجودها وجميع ما يختص بالسحرة والكهان وغيرهم ممن ليس بنبي لا يخرج عن مقدور الانس والجن وأعني بالمقدور ما يمكنهم التوصل اليه بطريق من الطرق فان من الناس من يقول ان المقدور لا بد أن يكون في محل القدرة وليس هذا هو لغة العرب ولا غيرهم من الأمم لا لغة القرآن والحديث ولا غيرهما وإنما يدعون ذلك من جهة العقل وقولهم في ذلك باطل من جهة العقل لكن المقصود هنا التكلم باللغة المعروفة لغة العرب وغيرهم التي كان نبينا صلى الله عليه و سلم وغيره يخاطب بها الناس كقوله في الحديث الصحيح لابي مسعود بما ضرب غلامه اعلم أبا مسعود اعلم أبا مسعود لله أقدر عليك منك على هذا فجعل نفس المملوك مقدورا عليه لسيده كما يقول الناس القوة على الضعيف ضعف في القوة ويقولون فلان قادر على فلان وفلان عجز عن فلان ويقولون فلان ناسج هذا الثوب وبنى هذه الدار ومنه قوله تعالى :  ويصنع الفلك فجعل الفلك مصنوعة لنوح ومنه قوله تعالى :  والله خلقكم وما تعملون أي والأصنام التي تعملونها وتنحتونها فجعل ما في الاصنام من التأليف معمولا لهم كما جعل تأليف السفية مصنوعا لهم وهذا كثير والمقصود هنا أن ما يأتي به السحرة والكهان ونحوهم هو مما يصنعه الانس والجن لا يخرج ذلك عنهم والانس والجن قد أرسلت اليهم الرسل فآيات الانبياء خارجة عن قدرة الانس والجن لا يقدر عليها لا الانس ولا الجن ولله الحمد والمنة ومقدورات الجن هي من جنس مقدورات الانس لكن تختلف في المواضع فإن الإنسي يقدر على أن يضرب غيره حتى يمرض أو يموت بل يقدر أن يكلمه بكلام يمرض به أو يموت فما يقدر عليه الساحر من سحر بعض الناس حتى يمرض أو يموت هو من مقدور الجن وهومن جنس مقدور الانس ومنعه من الجماع هو من جنس المرض المانع له من ذلك والحب والبغض لبعض الناس كما يفعله الساحر هو من استعانته بالشياطين وهو من جنس مقدور الانس بل شياطين الانس قد يؤثرون من البغض والحب أعظم مما تؤثره شياطين الجن والجن تقدر على الطيران في الهواء وهو من الأعمال والطيور تطير فهو من جنس مقدور الانس لكن يختلف المحل بأن هؤلاء سيرهم في الهواء والانس سيرهم على الأرض وكذلك المشي على الماء وطي الارض وهو قطع المسافة البعيدة في زمان قريب هو من هذا الجنس هو مما تفعله الجن وهو مما تفعله الجن ببعض الناس وقد أخبر الله عن العفريت أنه قال لسليمان عن عرش بلقيش وهو باليمن وسليمان بالشام أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك ولهذا يوجد كثير من الكفار والفساق والجهال تطير بهم الجن في الهواء وتمشي بهم على الماء وتقطع بهم المسافة البعيدة في المدة القريبة وليس شيء من ذلك من آيات الانبياء ولله الحمد والمنة .

إذ كان مقدور الانس والجن والاخبار ببعض الامور الغائبة التي يأتي بها الكهان هو أيضا من مقدور الجن فإنهم تارة يرون الغائب فيخبرون به وتارة يسترقون السمع من السماء فيخبرون به وتارة يسترقون وهم يكذبون في ذلك كما أخبر النبي صلى الله عليه و سلم عنهم وما تخبر به الانبياء من الغيب لا يقدر عليه إنس ولا جن ولا كذب فيه وأخبار الكهان وغيرهم كذبها أكثر من صدقها وكذلك كل من تعود الاخبار عن الغائب فاخبار الجن لا بد أن تكذب فإنه من طلب منهم الاخبار بالمغيب كان من جنس الكهان وكذبوا في بعض ما يخبرون به وإن كانوا صادقين في البعض وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه و سلم سئل عن الكهان فقيل له إن منا قوما يأتون الكهان قال فلا تأتوهم وثبت عنه في الصحيح أنه قال من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوما وفي السنن عنه أنه قال من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد والنبي صلى الله عليه و سلم لما أسري به من المسجد الحرام الى المسجد الاقصى لم يكن المقصود مجرد وصوله الى الاقصى بل المقصود ما ذكره الله بقوله لنريه من آياتنا كما قال في سورة النجم ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى وما رآه مختص بالانبياء لا يكون ذلك لمن خالفهم ولا يريه الله تعالى :  ما أراه محمد حين أسري به وكذلك صلاته بالانبياء في المسجد الاقصى وركوبه على البراق هذا كله من خصائص الانبياء .

والذين تحملهم الجن وتطير بهم من مكان الى مكان أكثرهم لا يدري كيف حمل بل يحمل الرجل الى عرفات ويرجع وما يدري كيف حملته الشياطين ولا يدعونه يفعل ما أمر الله به كما أمر الله به بل قد يقف بعرفات من غير إحرام ولا إتمام مناسك الحج وقد يذهبون به الى مكة ويطوف بالبيت من غير إحرام اذا حاذى الميقات وذلك واجب في أحد قولي العلماء ومستحب في الآخر فيفوته المشروع أو يوقعونه في الذنب ويغرونه بأن هذا من كرامات الصالحين وليس هو مما يكرم الله به وليه بل هو مما أضلته به الشياطين وأوهمته أن ما فعله قربة وطاعة أو يكون صاحبه له عند الله منزلة عظيمة وليس هو قربة وطاعة وصاحبه لا يزداد بذلك منزلة عند الله فإن التقرب الى الله انما يكون بواجب أو مستحب وهذا ليس بواجب ولا مستحب بل يضلون صاحبه ويصدونه عن تكميل ما يحبه الله منه من عبادته وطاعته وطاعة رسوله ويوهمونه أن هذا من افضل الكرامات حتى يبقى طالبا له عاملا عليه وهم بسبب اعانتهم له على ذلك قد استعملوه في بعض ما يريدون مما ينقص قدره عند الله أو وقوعه في ذنوب وإن لم يعرف انها ذنوب فيكون ضالا ناقصا وإن غفر له ذلك لعدم علمه فإنه نقص درجته وخفض منزلته بذلك الذي أوهموه أنه رفع درجته وأعلى منزلته وهذا من جنس ما تفعله السحرة فإن الساحر قد يصعد في الهواء والناس ينظرونه وقد يركب شيئا من الجمادات إما قصبة واما خابية وإما مكنسة وإما غير ذلك فيصعد به في الهواء وذلك أن الشياطين تحمله وتفعل الشياطين هذا ونحوه بكثير من العباد والضلال من عباد المشركين وأهل الكتاب والضلال من المسلمين فتحملهم من مكان الى مكان وقد يرى أحدهم بما يركبه إما فرس وإما غيره وهو شيطان تصور له في صورة مركوب وقد يرى أنه يمشي في الهواء من غير مركوب والشيطان قد حمله والحكايات في هذا كثيرة معروفة عند من يعرف هذا الباب ونحن نعرف من هذا أمورا يطول وصفها .

وكذلك المشي على الماء قد يجعل له الجن ما يمشي عليه وهو يظن أنه يمشي على الماء وقد يخيلون أليه أنه التقى طرفا النهرليعبر والنهر لم يتغير في نفسه ولكن خيلوا اليه ذلك وليس هذا ولله الحمد شيء من جنس معجزات الانبياء وقد يمشي على الماء قوم بتأييد الله لهم وإعانته إياهم بالملائكة كما يحكى عن المسيح وكما جرى للعلاء بن الحضرمي في عبور الجيش ولابي مسلم الخولاني وذلك اعانة على الجهاد في سبيل الله كما يؤيد الله المؤمنين بالملائكة ليس هو من فعل الشياطين والفرق بينهما من جهة السبب ومن جهة الغاية أما السبب فإن الصالحون يسمون الله ويذكرونه ويفعلون ما يحبه الله من توحيده وطاعته فييسر لهم بذلك ما ييسره ومقصودهم به نصر الدين والاحسان الى المحتاجين وما تفعله الشياطين يحصل بسبب الشرك والكذب والفجور والمقصود به الاعانة على مثل ذلك والجن فيهم مسلم وكافر فالمسلمون منهم يعاونون الانس المسلمين كما يعاون المسلمون بعضهم بعضا والكفار مع الكفار والجن الذين يطيعون الانس وتستخدمهم الانس ثلاثة أصناف أعلاها أن يأمروهم بما أمر الله به ورسله فيأمرونهم بعبادة الله وحده وطاعة رسله فإن الله أوجب على الجن طاعة الرسل كما أوجب ذلك على الانس وقال تعالى :  ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الانس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي اجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون يا معشر الجن والانس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على انفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون ولكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون فالرسل تكون من الانس الى الثقلين والنذر من الجن باتفاق العلماء واختلفوا هل يكون في الجن رسل والاكثرون على أنه لا رسل فيهم كما قال تعالى :  وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي اليهم من أهل القرى وعن الحسن البصري قال لم يبعث الله نبيا من أهل البادية ولا من الجن ولا من النساء ذكره عنه طائفة منهم البغوي وابن الجوزي وقال قتادة ما نعلم أن الله أرسل رسولا قط إلا من أهل القرى لأنهم كانوا أعلم وأحلم من أهل العمور رواه ابن أبي حاتم وذكره طائفة ونبينا محمد صلى الله عليه و سلم قد أرسل إلى الثقلين وقد آمن به من آمن من جن نصيبين فسمعوا القرآن وولوا الى قومهم منذرين ثم أتوا فبايعوه على الاسلام بشعب معروف بمكة بين الأبطح وبين جبل حراء وسألوه الطعام لهم ولدوابهم فقال لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه أوفر ما يكون لحما وكل بعرة علف لدوابكم قال النبي صلى الله عليه و سلم فلا تستنجوا بهما فانهما زاد إخوانكم من الجن والاحاديث بذلك كثيرة مشهورة في الصحيح والسنن والمسند وكتب التفسير والفقه وغيرها .

وقد روى الترمذي وغيره أنه قرأ عليهم سورة الرحمن وهي خطاب للثقلين وقد اتفق العلماء على أن كفارهم يدخلون النار كما أخبر الله بذلك في قوله قال ادخلوا في أمم قبلكم من الجن والانس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها وقال الله تعالى :  لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين وقال لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين وأما مؤمنوهم فأكثر العلماء على أنهم يدخلون الجنة وقال طائفة بل يصيرون ترابا كالدواب والاول أصح وهو قول الأوزاعي وابن أبي ليلى وأبي يوسف ومحمد ونقل ذلك عن مالك والشافي وأحمد بن حنبل وهو قول أصحابهم  واحتج عليه الاوزاعي وغيره بقوله ولكل درجات مما عملوا بعد ذكره أهل الجنة وأهل النار من الجن والانس كما قال في سورة الأنعام وفي الاحقاف ولكل درجات مما عملوا بعد ذكر هل الجنة والنار وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم درجات أهل النار تذهب سفولا ودرجات أهل الجنة تذهب صعودا فنبينا صلى الله عليه و سلم هو مع الجن كما هو مع الانس والانس معه إما مؤمن به وإما مسلم له وإما مسالم له وإما خائف منه وكذلك الجن منهم المؤمن به ومنهم المسلم له مع نفاق ومنهم المعاهد المسالم لمؤمني الجن ومنهم الحربي الخائف من المؤمنين وكان هذا أفضل مما أوتيه سليمان فان الله سخر الجن لسليمان تطيعه طاعة الملوك فإن سليمان كان نبيا ملكا مثل داود ويوسف وأما محمد فهو عبد رسول مثل ابراهيم وموسى وعيسى وهؤلاء أفضل من أولئك فأولياء الله المتبعون لمحمد إنما يستخدمون الجن كما يستخدمون الانس في عبادة الله وطاعته كما كان محمد صلى الله عليه و سلم يستعمل الانس لا في غرض له غير ذلك ومن الناس من يستخدم من يستخدمه من الإنس في أمور مباحة كذلك فيهم من يستخدم الجن في أمور مباحة لكن هؤلاء لا يخدمهم الانس والجن الا بعوض مثل أن يخدموهم كما يخدمونهم أو يعينونهم على بعض مقاصدهم وإلا فليس أحد من الانس والجن يفعل شيئا إلا لغرض والانس والجن اذا خدموا الرجل الصالح في بعض أغراضه المباحة فاما أن يكونوا مخلصين يطلبون الاجر من الله وإلا طلبوه منه إما دعاءه لهم وإما نفعه لهم بجاهه أو غير ذلك والقسم الثالث أن يستخدم الجن في أمور محظورة أو بأسباب محظورة مثل قتل نفس وإمراضها بغير حق ومثل منع شخص من الوطء ومثل تبغيض شخص الى شخص ومثل جلب من يهواه الشخص اليه فهذا من السحر وقد يقع مثله لكثير من الناس ولا يعرف السحر بل يكون موافقا للشياطين على بعض أغراضهم مثل شرك أو بدعة وضلالة أو ظلم أو فاحشة فيخدمونه ليفعل مايهوونه وهذا كثير في عباد المشركين وأهل الكتاب وأهل الضلال من المسلمين وكثير من هؤلاء لا يعرف أن ذلك من الشياطين بل يظنه من كرامات الصالحين ومنهم من يعرف أنه من الشياطين ويرى أنه بذلك حصل له ملك وطاعة ونيل ما يشتهيه من الرياسة والشهوات وقتل عدوه فيدخل في ذلك كما تدخل الملوك الظلمة في أغراضهم وليس أحد من الناس تطيعه الجن طاعة مطلقة كما كانت تطيع سليمان بتسخير من الله وأمر منه من غير معارضة كما أن الطير كانت تطيعه والريح قال تعالى :  ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور .

والجن والانس فيهم المؤمن المطيع والمسلم الجاهل أو المنافق أو العاصي وفيهم الكافر وكل ضرب يميل الى بني جنسه والذي أعطاه الله تعالى :  سليمان خارج عن قدرة الجن والانس فإنه لا يستطيع أحد أن يسخر الجن مطلقا لطاعته ولا يستخدم أحدا منهم الا بمعاوضة إما عمل مذموم تحبه الجن وإما قوم تخضع له الشياطين كالاقسام والعزائم فان كل جني فوقه من هو أعلى منه فقد يخدمون بعض الناس طاعة لمن فوقهم كما يخدم بعض الانس لمن أمرهم سلطانهم بخدمته لكتاب معه منه وهم كارهون طاعته وقد يأخذون منه ذلك الكتاب ولا يطيعونه وقد يقتلونه أو يمرضونه فكثير من الناس قتلته الجن كما يصرعونهم والصرع لأجل الزنا وتارة يقولون إنه آذاهم إما بصب نجاسة عليهم وإما بغير ذلك فيصرعون صرع عقوبة وانتقام وتارة يفعلون ذلك عبثا كما يعبث شياطين الانس بالناس والجن أعظم شيطنة وأقل عقلا وأكثر جهلا والجني قد يحب الإنسي كما يحب الأنسي الانسي وكما يحب الرجل المرأة والمرأة الرجل ويغار عليه ويخدمه بأشياء واذا صار مع غيره فقد يعاقبه بالقتل وغيره كل هذا واقع ثم الذي يخدمونه تارة يسرقون له شيئا من أموال الناس مما لم يذكر اسم الله عليه ويأتونه إما بطعام وإما شراب واما لباس واما نقد وإما غير ذلك وتارة يأتونه في المفاوز بماء عذب وطعام وغير ذلك وليس شيء من ذلك من معجزات الانبياء ولا كرامات الصالحين فإن ذلك انما يفعلونه بسبب شرك وظلم وفاحشة وهو لو كان مباحا لم يجز أن يفعل بهذا السبب فكيف اذا كان في نفسه ظلما محرما لكونه من الظلم والفواحش ونحو ذلك وقد يخبرون بأمور غائبة مما رأوه وسمعوه ويدخلون في جوف الانسان قال النبي صلى الله عليه و سلم ان الشيطان يجري من الانسان مجرى الدم لكن إنما سلطانهم كما قال الله إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون انما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون ولما قال الشيطان رب بما أغويتني لأزينن لهم في الارض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال الله تعالى :  ان عبادي ليس لك عليهم سلطان ثم قال إلا أي لكن من اتبعك من الغاوين وان جهنم لموعدهم أجمعين لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم فأهل الاخلاص والايمان لا سلطان له عليهم ولهذا يهربون من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة ويهربون من قراءة آية الكرسي وآخر سورة البقرة وغير ذلك من قوارع القرآن ومن الجن من يخبر بأمور مستقبلة للكهان وغير الكهان مما يسرقونه من السمع والكهانة كانت ظاهرة كثيرة بأرض العرب فلما ظهر التوحيد هربت الشياطين وبطلت أو قلت ثم انها تظهر في المواضع التي يختفي فيها أثر التوحيد وقد كان حول المدينة بعد أن هاجر النبي صلى الله عليه و سلم كهان يتحاكمون اليهم وكان أبو بردة بن نيار كاهنا ثم أسلم بعد ذلك وهو من أسلم .

والاصنام لها شياطين كانت تتراءى للسدنة أحيانا وتكلمهم أحيانا قال أبي بن كعب مع كل صنم جنية وقال ابن عباس في كل صنم شيطان يتراءى للسدنة فيكلمهم والشياطين كما قال الله تقترن بما يجانسها بأهل الكذب والفجور قال تعالى :  هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون فكيف يجوز أن يقال إن مثل هذا يكون معجزة لنبي أو كرامة لولي وهذا يناقض الايمان ويضاده والانبياء والاولياء أعداء هؤلاء قال تعالى :  ان الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا انما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير وقال تعالى :  ألم أعهد اليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون وهذا يظهر الفرق بين إخبار الانبياء عن الغيب ما لا سبيل لمخلوق الى علمه إلا منه كما قال تعالى :  عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا الا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا فقوله على غيبه هو غيبه الذي اختص به وأما ما يعلمه بعض المخلوقين فهو غيب عمن لم يعلمه وهو شهادة لمن علمه فهذا أيضا تخبر منه الانبياء بما لا يمكن الشياطين أن تخبر به كما في إخبار اللمسيح بقوله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم فإن الجن قد يخبرون بما يأكله بعض الناس وبما يدخرونه لكن الشياطين انما تتسلط على من لا يذكر اسم الله كالذي لا يذكر اسم الله اذا دخل فيدخلون معه وإن لم يذكر اسم الله اذا أكل فانهم يأكلون معه وكذلك اذا ادخر شيئا ولم يذكر اسم الله عليه عرفوا به وقد يسرقون بعضه كما جرى هذا لكثير من الناس وأما من يذكر اسم الله على طعامه وعلى ما يجتازه فلا سلطان لهم عليه لا يعرفون ذلك ولا يستطيعون أخذه والمسيح عليه السلام كان يخبر المؤمنين بما يأكلون وما يدخرون مما ذكر اسم الله عليه والشياطين لا تعلم به ولهذا من يكون إخباره عن شياطين تخبره لا يكاشف أهل الايمان والتوحيد وأهل القلوب المنورة بنور الله بل يهرب منهم ويعترف أنه لا يكاشف هؤلاء وأمثالهم وتعترف الجن والانس الذين خوارقهم بمعاونة الجن لهم أنهم لا يمكنهم أن يظهروا هذه الخوارق بحضرة أهل الايمان والقرآن ويقولون أحوالنا لا تظهر قدام الشرع والكتاب والسنة وإنما تظهر عند الكفار والفجار وهذا لأن أولئك أولياء الشياطين ولهم شياطين يعاونون شياطين المخدومين ويتفقون على ما يفعلونه من الخوارق الشيطانية كدخول النار مع كونها لم تصر عليهم بردا وسلاما فإن الخليل لما ألقى في النار صارت عليه بردا وسلاما وكذلك أبو مسلم الخولاني لما قال له الاسود العنسي المتنبي أتشهد أني رسول الله قال ما أسمع قال أتشهد أن محمدا رسول الله قال نعم فأمر بنار فأوقدت له وألقي فيها فجاءوا اليه فوجدوه يصلي فيها وقد صارت عليه بردا وسلاما فقدم المدينة بعد موت النبي صلى الله عليه و سلم وأخذه عمر فأجلسه بينه وبين أبي بكر وقال الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني في أمة محمد من فعل به كما فعل بابراهيم وأما اخوان الشياطين فاذا دخلت فيهم الشياطين فقد يدخلون النار ولا تحرقهم كما يضرب أحدهم الف سوط ولا يحس بذلك فإن الشياطين تتلقى ذلك وهذا أمر كثير معروف قد رأينا من ذلك ما يطول وصفه .

وقد ضربنا نحن من الشياطين في الانس ما شاء الله حتى خرجوا من الانس ولم يعاودوه وفيهم من يخرج بالذكر والقرآن وفيهم من يخرج بالوعظ والتخويف وفيهم من لا يخرج إلا بالعقوبة كالانس فهؤلاء الشياطين اذا كانوا مع جنسهم الذين لا يهابونهم فعلوا هذه الامور وأما اذا كانوا عند أهل ايمان وتوحيد وفي بيوت الله التي يذكر فيها اسمه لم يجترئوا على ذلك بل يخافون الرجل الصالح أعظم مما يخافه فجار الانس ولهذا لا يمكنهم عمل سماع المكاء والتصدية في المساجد المعمورة بذكر الله ولا بين أهل الايمان والشريعة المتبعين للرسول إنما يمكنهم ذلك في الأماكن التي تأتيها الشياطين كالمساجد المهجورة والمشاهد والمقابر والحمامات والمواخير فالمواضع التي نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن الصلاة فيها كالمقبرة وأعطان الابل والحمام وغيرها فتكون حال هؤلا فيها أقوى لأنها مواضع الشياطين كالماخور والمزبلة والحمام ونحو ذلك بخلاف الأمكنة التي ظهر فيها الايمان والقرآن والتوحيد التي أثنى الله على أهلها وقال فيهم الله نور السماوات والأرض مثل نوره مشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الامثال للناس والله بكل شيء عليم في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والابصار ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب فهذه أمكنة النور والصالحين والملائكة لا تتسلط عليها الشياطين بكل ما تريد بل كيدهم فيها ضعيف كما أن كيدهم في شهر رمضان ضعيف اذ كانوا فيه يسلسلون لكن لم يبطل فعلهم بالكلية بل ضعف فشرهم فيه على أهل الصوم قليل بخلاف أهل الشراب وأهل الظلمات فإن الشياطين هنالك محالهم وهم يحبون الظلمة ويكرهون النور ولهذا ينتشرون بالليل كما جاء في الحديث الصحيح ولهذا أمر الله بالتعوذ من شر غاسق اذا وقب وخوارق الجن كالإخبار ببعض الامور الغائبة وكالتصرفات الموافقة لأغراض بعض الانس كثيرة معروفة في جميع الامم فقد كانت في العرب كثيرة وكذلك في الهند وفي الترك والفرس والبربر وسائر الامم فهي أمور معتادة للجن والانس وآيات الانبياء كما تقدم خارجة عن مقدور الانس والجن فإنهم مبعوثون الى الانس والجن فيمتنع أن تكون آياتهم أمورا معروفة فيمن بعثوا اليه اذ يقال هذه موجودة كثيرا للانس فلا يختص بها الانبياء بل هذه الخوارق هي آية وعلامة على فجور صاحبها وكذبه فهي ضد آيات الانبياء التي تستلزم صدق صاحبها وعدله ولهذا يكون كثير من الذين تخدمهم الشياطين من أهل الشياطين وهذا معروف لكثير ممن تخدمه الشياطين بل من طوائف المخدومين من يكونون كلهم من هذا الباب كالبويي الذي للترك وأكثر المولهين من هذا الباب وهم يصعدون بهم في الهواء ويدخلون المدن والحصون بالليل والابواب مغلقة ويدخلون على كثير من رؤساء الناس ويظنون أن هؤلاء صالحون قد طاروا في الهواء ولا يعرف أن الجن طارت بهم وهذه الاخوال الشيطانية تبطل أو تضعف إذا ذكر الله وتوحيده وقرئت قوارع القرآن لا سيما آية الكرسي فإنها تبطل عامة هذه الخوارق الشيطانية وأما آيات الانبياء والأولياء فتقوى بذكر الله وتوحيده .

والجن المؤمنون قد يعينون المؤمنين بشيء من الخوارق كما يعين الانس المؤمنون للمؤمنين بما يمكنهم من الإعانة وما لا يكون إلا مع الإقرار بنبوة الانبياء فهو من آياتهم فوجوده يؤيد آياتهم لا يناقضها مع أن آيات الانبياء التي يدعون اعلى من هذا وأعلى من كرامات الاولياء فإن تلك هي الآيات الكبرى والذين ذكر عنهم إنكار كرامات الاولياء من المعتزلة وغيرهم كأبي اسحاق الاسفراييني وأبي محمد بن أبي زيد وكما ذكر ذلك أبو محمد بن حزم لا ينكرون الدعوات المجابة ولا ينكرون الرؤيا الصادقة فإن هذا متفق عليه بين المسلمين وهو أن الله تعالى :  قد يخص بعضهم بما يريه من المبشرات وقد كان سعد بن أبي وقاص معروفا باجابة الدعاء فإن النبي صلى الله عليه و سلم قال اللهم سدد رميته وأجب دعوته وحكاياته في ذلك مشهورة وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لم يبق بعدي من النبوة الا الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له وثبت عنه في الصحيح أنه قال ان من عباد الله من لو أقسم على الله لابره ذكر ذلك لما أقسم أنس بن النضر أنه لا تكسر ثنية الربيع فاستجاب الله ذلك وايضا فإن منهم البراء بن مالك أخو أنس بن مالك وكانوا اذا اشتد الحرب يقولون يا براء أقسم على ربك فيقسم على ربه فينصرون والقسم قيل هو من جنس الدعاء لكن هو طلب مؤكد بالقسم فالسائل يخضضع ويقول أعطني والمقسم يقول أقسم عليك لتعطيني وهو خاضع سائل لكن من الناس من يدعي له من الكرامات مالا يجوز ان يكون للانبياء كقول بعضهم ان لله عبادا لو شاءوا من الله أن لا يقيم القيامة لما اقامها وقول بعضهم إنه يعطي كن أي شيء أرادة قال له كن فيكون وقول بعضهم لا يعرب عن قدرته ممكن كما لا يعزب عن قدرة ربه محال فانه لما كثر في الغلاة من يقول بالحلول والاتحاد وإلهية بعض البشر كما قاله النصارى في المسيح صاروا يجعلون ما هو من خصائص الربوبية لبعض البشر وهذا كفر وأيضا فإن كثيرا من الناس لا يكون من أهل الصلاح وتكون له خوارق شيطانية كما لعباد المشركين وأهل الكتاب فتتجلى لهم على أنها كرامات فمن الناس من يكذب بها ومنهم من يجعل أهلها من أولياء الله وذلك لأن الطائفتين ظنت أن مثل هذه الخوارق لا يكون إلا لأولياء الله ولم يميزوا بين الخوارق الشيطانية التي هي جنس ما للسحرة والكهان ولعباد المشركين وأهل الكتاب وللمتنبئين الكذابين وبين الكرامات الرحمانية التي يكرم الله بها عباده الصالحين فلما لم يميزوا بين هذا وهذا وكان كثير من الكفار والفجار وأهل الضلال والبدع لهم خوارق شيطانية صار هؤلاء منهم حزبين حزبا قد شاهدوا ذلك وأخبرهم به من يعرفون صدقه فقالوا هؤلاء اولياء الله وحزبا رأوا أن أولئك خارجون عن الشريعة وعن طاعة الله ورسوله فقالوا ليس هؤلاء من الأولياء الذين لهم كرامات فكذبوا بوجود ما رآه أولئك وأولئك قد عاينوا ذلك أو تواتر عندهم فصار تكذيب هؤلاء مثل تكذيب من ينكر السحر والكهانة والجن وصرعهم للانس إذا كذب ذلك عند من رأى ذلك أو ثبت عنده ومن كذب بما تيقن غيره وجوده نقصت حرمته عنه هذا المتيقن وكان عنده إما جاهلا وإما معاندا فربما رد عليه كثيرا من الحق بسبب ذلك ولهذا صار كثير من المنتسبين إلى زهد أو فقر أو تصرف أو وله أو غير ذلك لا يقبلون قولهم ولا يعبأون بخلافهم لأنهم كذبوا بحق قد تيقنه هؤلاء وأنكروا وجوده وكذبوا بما لم يحيطوا بعلمه وقد يدخلون انكار ذلك في الشرع كما أدخلت المعتزلة ونحوهم إنكار كرامات الأولياء وإنكار السحر والكهانة في الشرع بناء على أن ذلك يقدح في آيات الانبياء فجمعوا بين التكذيب بهذه الامور الموجودة وبين عدم العلم بآيات الانبياء والفرق بينها وبين غيرها حيث ظنوا أن هذه الخوارق الشيطانية من جنس آيات الانبياء وأنها نظير لها فلو وقعت لم يكن للأنبياء ما يتميزون به والذين ردوا على هؤلاء من الأشعرية ونحوهم يشاركونهم في هذا في التسوية بين الجنسين وأنه لا فرق لكن هؤلاء لما تيقنوا وجودها جعلوا الفرق ما ليس بفرق وهو اقترانها بالدعوى والتحدي بمثلها وعدم المعارضة وهم يقولون إنا نعلم بالضرورة أن الرب إنما خلقها لتصديق النبي وهذا كلام صحيح لكنه يستلزم بطلان ما أصلوه من أنه لا يخلق شيئا لشيء وأيضا فاختصاصها بوجود العلم الضروري عندها دون غيرها لا بد أن يكون لأمر أوجب التخصيص وهم يقولون بل قد تستوي الامور ويوجد العلم الضروري ببعضها دون بعض كما قالوا مثل ذلك في العادات انه يجوز انخراقها كلها بلا سبب على أعظم الوجوه كجعل الجبال بواقيت لكن يعلم بالضرورة أن هذا لا يقع فكذلك قالوا في المعجزات يجوز أن يخلقها على يد كاذب إنما خلقها على يد الصادق بما ادعى من العلم الضروري صحيح وأما قولهم إن المعلوم به يماثل غيره فغلط عظيم بل هم لم يعرفوا الفرق بمنزلة العامي الذي أوردت عليه شبهات السوفسطائية فهو يعلم بالضرورة أنها باطلة ولكن لا يعرف الفرق بينها وبين الحق ولكن العامي يقول فيها فساد لا أعرفه لا يقول دلائل الحق كدلائل الباطل وهؤلاء ادعوا الاستواء في نفس الامر فغلطوا غلطا عظيما ولو قالوا بينهما فرق لكنه لم يتخلص لنا لكان قولهم حقا وكانوا قد ذكروا عدم العلم لا العلم بالعدم كما يقول ذلك كثير من الناس يقول ما أعرف الفرق بينهما وذلك أن العلم الضروري يحصل ببعض الأخبار دون بعض وقد قيل إنا نعلم أنه متواتر بحصول علمنا الضروري به والتحقيق انه اذا حصل له علم ضروري كان قد حصل الخبر الذي يوجبه لهم وقد لا يحصل لغيرهم والعلم يحصل بعدد المخبرين وبصفاتهم وبأمور أخرى تنضم الى الخبر ومن جعل الاعتبار بمجرد العدد فقد غلط والأكثرون يقولون العلم الحاصل به ضروري وقيل انه نظري وهو اختيار الكعبي وأبي الحسين وأبي الخطاب والتحقيق أنه قد يكون ضروريا وقد يكون نظريا وقد يجتمع فيه الأمران يكون ضروريا ثم إذا نظر فيه وجد أنه يوجب العلم وكذلك العلم الحاصل عقب الآيات قد يكون ضروريا وقد يكون نظريا وكل نظري فإن منتهاه أنه ضروري ولهذا قال أبو المعالي المرتضى عندنا أن جميع العلوم ضرورية أي بعد حصول أسبابها ولا بد من فرق في نفس الامر بين ما يوجبه العلم ومالا يوجبه وأصل خطأ الطائفتين أنهم لم يعرفوا آيات الانبياء وما خصهم الله به ولم يقدروا قدر النبوة ولم يقدروا آيات الانبياء قدرها بل جعلوا هذه الخوارق الشيطانية من جنسها فإما ان يكذبوا بوجودها وإما أن يسووا بينهما ويدعوا فرقا لا حقيقة له ولهذا يوجد كثير ممن يكذب بهذه الخوارق الشيطانية أن تكون لبعض الاشخاص لما يراه من نقص دينه وعلمه فاذا عاينها بعد ذلك أو ثبتت عنده خضع لذلك الشخص الذي كان عنده إما كافرا وإما ضالا وإما مبتدعا جاهلا وذلك لأنه أنكر وجودها معتقدا أنها لا توجد إلا للصالحين فلما تيقن وجودها جعلها دليلا على الصلاح وهو غالط في الاصل بل هذه من الشياطين من جنس ما للسحرة والكهان ومن جنس ما للكفار من المشركين وأهل الكتاب فإن لمشركي الهند والترك وغيرهم ولعباد النصارى من هذه الخوارق الشيطانية أمورا كثيرة يطول وصفها أكثر وأعظم من أكثر مما يوجد منها لاهل الضلال والبدع من المسلمين وما يوجد منها للمنافقين فإن الشياطين لا تتمكن من إغواء المسلمين وإن كان فيهم جهل وظلم كما تتمكن من إغواء المشركين وأهل الكتاب ولهذا ثنى في القرآن قصة موسى مع السحرة وذكر ما يقولوه الكفار لانبيائهم فإنه ما جاء نبي صادق قط الا قيل فيه إنه ساحر أو مجنون كما قال تعالى :  كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون وذلك أن الرسول يأتي بما يخالف عاداتهم ويفعل ما يرونه غير نافع ويترك ما يرونه نافعا وهذا فعل المجنون فإن المجنون فاسد العلم والقصد ومن كان مبلغه من العلم إرادة الحياة الدنيا كان عنده من ترك ذلك وطلب مالا يعلمه مجنونا ثم النبي مع هذا يأتي بأمور خارجة عن قدرة الناس من إعلام بالغيوب وأمور خارقة لعاداتهم فيقولون هو ساحر وهذا موجود في المنافقين الملحدين المتظاهرين بالاسلام من الفلاسفة ونحوهم يقولون ان ما أخبرت به الانبياء من الغيوب والجنة والنار هو من جنس قول المجانين وعندهم خوارقهم من جنس خوارق السحرة والممرورين المجانين كما ذكر ابن سينا وغيره لكن الفرق بينهما أن النبي حسن القصد بخلاف الساحر وأنه يعلم ما يقول بخلاف المجنون لكن معجزات الانبياء عندهم قوى نفسانية ليس مع هذا ولا هذا شيء خارج عن قوة النفس والقاضيان أبو بكر وأبو يعلى ومن وافقهما متوقفون في وجود المخدوم الذي تخدمه الجن قالوا لا يقطع بوجوده وكذلك الكاهن ذكروا فيه القولين قول من يقول إنه المتخرص وقول من يقول إنه مخدوم وهم متوقفون فيه لا يقطعون بوجود مخدوم كاهن كما يقطعون بوجود الساحر لأنه في زمانهم وجد الساحر والقرآن أخبرنا بالسحر في سورة البقرة بخلاف الكاهن فإن القرآن ذكر اسمه ولو تدبروا لعلموا ان الكاهن هو المذكور في قوله هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قيل له ان منا قوما يأتون الكهان قال فلا تأتوهم وسئل عن الكهان وما يخبرون به فأخبر أن الجن تسترق السمع وتخبرهم به فالكتاب والسنة أثبتا وجود الكاهن وأحمد قد نص على أنه يقتل كالساحر لكن الكاهن إنما عنده أخبار والساحر عنده تصرف بقتل وإمراض وغير ذلك وهذا تطلبه النفوس أكثر وابن صياد كان كاهنا ولهذا قال له النبي صلى الله عليه و سلم قد خبأت لك خبيئا فقال الدخ فقال اخسأ فلن تعدو قدرك انما أنت من إخوان الكهان ولما قضى في الجنين بغرة قال حمل بن مالك أيودي من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل قتل ذلك يطل فقال إنما أنت من إخوان الكهان من أجل سجعه الذي سجع فكانوا يسجعون أساجيع وقد رأيت من هؤلاء شيوخا يسجعون أساجيع كأساجيع الكهان ويكون كثير منها صدقا ولهذا جمع الله بين الكاهن والشاعر في قوله وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل من رب العالمين وكذلك في الشعراء ذكر الكاهن والشاعر بعد قوله وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الامين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين الى قوله هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك اثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون والرسول في آية الحاقة محمد وقال ايضا انه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين وما صاحبكم بمجنون ولقد رآه بالافق المبين وما هو على الغيب بضنين وما هو بقول شيطان رجيم فأين تذهبون إن هو إلا ذكر للعالمين فلما أخبر به أنه قول رسول هو ملك من الملائكة نفى أن يكون قول شيطان ولما أخبر هناك أنه قول رسول من البشر نفى أن يكون قول شاعر أو كاهن فهذا تنزيه للقرآن نفسه ونزه الرسول أن يكون على الغيب بظنين أي متهم وأن يكون بمجنون فالجنون فساد في العلم والتهمة فساد في القصد كما قالوا ساحر أو مجنون وقال في الطور فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون قل تربصوا فإني معكم من المتربصين وقد أخبر عن الانبياء قبله أنه ما أتى الذين من قبلهم من رسول الا قالوا ساحر أو مجنون ولم يقولوا كاهن لأن الكاهن عند العرب هو الذي يتكلم بكلام مسجوع وله قرين من الجن وهذا الاسم ليس بذم عند أهل الكتاب بل يسمون أكثر العلماء بهذا الاسم ويسمون هارون وأولاده الذين عندهم التوراة بهذا الاسم والقدر المشترك العلم بالامور الغائبة والحكم بها فعلماء أهل الكتاب يخبرون بالغيب ويحكمون به عن الوحي الذي أوحاه الله وكهان العرب كانت تفعل ذلك عن وحي الشياطين وتمتاز بأنها تسجع الكلام بخلاف اسم الساحر فإنه اسم معروف في جميع الامم وقد يدخل في ذلك عندهم المخدوم الذي تخبره الشياطين ببعض الامور الغائبة ولكون الساحر يأتي بالخوارق شبهوا به النبي وقالوا ساحر فدل ذلك على قدر مشترك لكن الفرقان بينهما أعظم كالفرق بين الملائكة والشياطين وأهل الجنة وأهل النار وخيار الناس وشرارهم وهذا أعظم الفروق بين الحق والباطل والكفار قالوا عن الانبياء انهم مجانين وسحرة فكما يعلم بضرورة العقل وجود أعظم الفرق بينهم وبين المجانين وأنهم أعقل الناس وأبعدهم عن الجنون فكذلك يعلم بضرورة العقل أعظم الفرق بينهم وبين السحرة وأنهم أفضل الناس وأبعدهم عن السحر فالساحر يفسد الادراك حتى يسمع الانسان الشيء ويراه ويتصور خلاف ما هو عليه والانبياء يصححون سمع الانسان وبصره وعقله والذين خالفوهم صم بكم عمي فهم لا يعقلون فالسحرة يزيدون الناس عمى وصمما وبكما والانبياء يرفعون عماهم وصممهم وبكمهم كما في الصحيح عن عطاء بن يسار أنه سأل عبد الله بن عمرو روى عبد الله بن سلام أنه قيل له أخبرنا ببعض صفة رسول الله صلى الله عليه و سلم في التوراة فقال انه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للاميين انت عبدي سميتك المتوكل لست بفظ ولا غليظ ولا سخاب بالاسواق ولا تجزي بالسيئة السيئة ولكن تجزي بالسيئة الحسنة وتعفو وتغفر ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء فأفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا بأن يقولوا لا اله الا الله وهذا مذكور عند أهل الكتاب في نبوة أشعيا .

ولفظ التوراة قد يراد به جميع الكتب التي نزلت قبل الانجيل فيقال التوراة والانجيل ويراد بالتوراة الكتاب الذي جاء به موسى وما بعده من نبوة الانبياء المتبعين لكتاب موسى قد يسمى هذا كله توراة فإن االتوراة تفسر بالشريعة فكل من دان بشريعة التوراة قيل لنبوته انها من التوراة وكثير مما يعزوه كعب الأحبار ونحوه إلى التوراة هو من هذا الباب لا يختص ذلك بالكتاب المنزل على موسى كلفظ الشريعة عند المسلمين يتناول القرآن والاحاديث النبوية وما استخرج من ذلك كما قد بسط هذا في موضع آخر والمقصود هنا أن الانبياء يفتحون الأعين العمي والآذان الصم والقلوب الغلف والسحرة يفسدون السمع والبصر والعقل حتى يخيل للانسان الأشياء بخلاف ما هي عليه فيتغير حسه وعقله قال في قصة موسى سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم وهذا يقتضي أن أعين الناس قد حصل فيها تغير ولهذا قال تعالى :  ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت ابصارنا بل نحن قوم مسحورون فقد علموا أن السحر يغير الاحساس كما يوجب المرض والقتل وهذا كله من جنس مقدور الانس فإن الانسان يقدر أن يفعل في غيره ما يفسد إدراكه وما يمرضه ويقتله فهذا مع كونه ظلما وشرا هو من جنس مقدور البشر والجني إذا اراد أن يرى قرينه أمورا غائبة سأل عنها مثلها له فاذا سأل عن المسروق أراه شكل ذلك المال وإذا سأل عن شخص أراه صورته ونحو ذلك وقد يظن الرائي أنه رأى عينه وإنما رأى نظيره وقد يتمثل الجني في صورة الإنسي حتى يظن الظان أنه الإنسي وهذا كثير كما تصور لقريش في صورة سراقة ابن مالك بن جعشم وكان من اشراف بني كنانة قال تعالى :  وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وأني جار لكم الآية فلما عاين الملائكة ولى هاربا ولما رجعوا ذكروا ذلك لسراقة فقال والله ما علمت بحربكم حتى بلغني هزيمتكم وهذا واقع كثيرا حتى انه يتصور لمن يعظم شخصا في صورته فاذا استغاث به أتاه فيظن ذلك الشخص انه شيخه الميت وقد يقول له إنه بعض الانبياء أو بعض الصحابة الاموات ويكون هو الشيطان وكثير من الناس أهل العبادة والزهد من يأتيه في اليقظة من يقول إنه رسول الله ويظن ذلك حقا ومن يرى إذا زار بعض قبور الانبياء أو الصالحين أن صاحب القبر قد خرج اليه فيظن أنه صاحب القبر ذلك النبي أو الرجل الصالح وإنما هو شيطان أتى في صورته إن كان يعرفها وإلا أتى في صورة انسان قال إنه ذلك الميت وكذلك يأتي كثيرا من الناس في مواضع ويقول انه الخضر وإنما كان جنيا من الجن ولهذا لم يجترئ الشيطان على أن يقول لأحد من الصحابة إنه الخضر ولا قال أحد من الصحابة إني رأيت الخضر وإنما وقع هذا بعد الصحابة وكلما تأخر الامر كثر حتى إنه يأتي اليهود والنصارى ويقول انه الخضر ولليهود كنيسة معروفة بكنيسة الخضر وكثير من كنائس النصارى يقصدها هذا الخضر والخضر الذي يأتي هذا الشخص غير الخضر الذي يأتي هذا ولهذا يقول من يقول منهم لكل ولي خضر وإنما هو جني معه.

 والذين يدعون الكواكب تتنزل عليهم أشخاص يسمونها روحانية الكواكب وهو شيطان نزل عليه لما أشرك ليغويه كما تدخل الشياطين في الاصنام وتتكلم أحيانا لبعض الناس وتتراءى للسدنة أحيانا ولغيرهم أيضا وقد يستغيث المشرك بشيخ له غائب فيحكى الجني صوته لذلك الشيخ حتى يظن أنه سمع صوت ذلك المريد مع بعد المسافة بينهما ثم ان الشيخ يجيبه فيحكي الجني صوت الشيخ للمريد حتى يظن أن شيخه سمع صوته وأجابه وإلا فصوت الانسان يمتنع أن يبلغ مسيرة يوم ويومين وأكثر وقد يحصل للمريد من يؤذيه فيدفعه الجني ويخيل للمريد أن الشيخ هو دفعه وقد يضرب الرجل بحجر فيدفعه عنه الجني ثم يصيب الشيخ بمثل ذلك حتى يقول اني اتقيت عنك الضرب وهذا أثره في وقد يكونون يأكلون طعاما فيصور نظيره للشيخ ويجعل يده فيه ويجعل الشيطان يده في طعام أولئك حتى يتوهم الشيخ وهم ان يد الشيخ امتدت من الشام الى مصر وصارت في ذلك الاناء ،  وعمر بن الخطاب لما نادى يا سارية الجبل قال ان لله جندا يبلغونهم صوتي فعلم أن صوته انما يبلغ بما ييسره الله من تبليغ بعض الملائكة او صالحي الجن فيهتفون بمثل صوته كالذي ينادي ابنه وهو بعيد لا يسمع يا فلا فيسمعه من يريد إبلاغه فينادي يا فلان فيسمع ذلك الصوت وهو المقصود بصوت أبيه وإلا فصوت البشر ليس في قوته أن يبلغ مسافة ايام وقد قلنا أن آيات الانبياء التي اختصوا بها خارجة عن قدرة الجن والانس قال تعالى :  قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن ياتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.

وأما اذا كانت مما تقدر عليه الملائكة فهذا مما يؤيدها فإن الملائكة لا يطيعون من يكذب على الله ولا يؤيدونه بالخوارق فاذا أيد به كما أيد الله به نبيه والمؤمنين يوم بدر ويوم حنين كان هذا من أعلام صدقه وإنه صادق على الله في دعوى النبوة فإنها لا تؤيد الكذاب لكن الشياطين تؤيد الكذب والملائكة تؤيد الصدق والتأييد بحسب الايمان فمن كان إيمانه أقوى من غيره كان جنده من الملائكة أقوى وان كان ايمانه ضعيفا كانت ملائكته بحسب ذلك كملك الانسان وشيطانه فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال ما منكم من أحد إلا وكل به قرينه من الملائكة وقرينه من الجن قالوا وبك يا رسول الله قال وبي لكن الله أعانني عليه فأسلم وفي حديث آخر فلا يأمرني إلا بخير وهو في صحيح مسلم من وجهين من حديث ابن مسعود ومن حديث عائشة وقال ابن مسعود ان للقلب لمة من الملك ولمة من الشيطان فلمة الملك إيعاد الخير وتصديق بالحق ولمة الشيطان ايعاد بالشر وتكذيب بالحق فاذا كانت حسنات الانسان أقوى أيد بالملائكة تأييدا يقهر به الشيطان وإن كانت سيئاته اقوى كان جند الشيطان معه أقوى وقد يلتقي شيطان المؤمن بشيطان الكافر فشيطان المؤمن مهزول ضعيف وشيطان الكافر سمين قوي فكما أن الانسان بفجوره يؤيد شيطانه على ملكه وبصلاحه يؤيد ملكه على شيطانه فكذلك الشخصان يغلب أحدهما الآخر لأن الآخر لم يؤيد ملكه فلم يؤيده أو ضعف عنه لأنه ليس معه إيمان يعينه كالرجل الصالح اذا كان ابنه فاجرا لم يمكنه الدفع عنه لفجوره وبسط هذه الامور له موضع آخر والمقصود هنا الكلام على الفرق بين آيات الانبياء وغيرهم وأن من قال أن آيات الانبياء والسحر والكهانة والكرامات وغير ذلك من جنس واحد فقد غلط ايضا والطائفتان لم يعرفوا قدر آيات الانبياء بل جعلوها من هذا الجنس فهؤلاء نفوه وهؤلاء أثبتوه وذكروا فرقا لا حقيقة له واذا قال القائل آيات الانبياء لا يقدر عليها إلا الله أو أن الله يخترعها ويبتدئها بقدرته أو أنها من فعل الفاعل المختار ونحو ذلك قيل له هذا كلام مجمل فقد يقال عن كل ما يكون انه لا يقدر عليه إلا الله فإن الله خالق كل شيء وغيره لا يستقل باحداث شيء وعلى هذا فلا فرق بين المعجزات وغيرها وقد يقال لا يقدر عليها إلا الله أي هي خارجة عن مقدورات العباد فإن مقدوراته على قسمين منها ما يفعله بواسطة قدرة العبد كأفعال العباد وما يصنعونه ومنها ما يفعله بدون ذلك كإنزال المطر فإن أراد هذا القائل أنها خارجة عن مقدور الإنس بمعنى أنه لا يقع منهم لا بإعانة الجن ولا بغير ذلك فهذا كلام صحيح وإن أراد أنه خارج عن مقدورهم فقط وإن كان مقدورا للجن فهذا ليس بصحيح فإن الرسل أرسلوا إلى الانس والجن والسحر والكهانة وغير ذلك تقدر الجن على إيصالها إلى الانس وهي مناقضة لآيات الانبياء كما قال تعالى :  هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم وإن أراد أنها خارجة عن مقدور الملائكة والإنس والجن أو أن الله يفعلها بلا سبب فهذا أيضا باطل فمن أين له أن الله يخلقها بلا سبب ومن أين له أنه لا يخلقها بواسطة الملائكة الذين هم رسله في عامة ما يخلقه فمن أين له أن جبريل لم ينفخ في مريم حتى حملت بالمسيح وقد أخبر الله بذلك وهو وأمه مما جعلهما آية للعالمين قال تعالى :  وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما الى ربوة ذات قرر ومعين وخلق المسيح بلا أب من أعظم الآيات وكان بواسطة نفخ جبريل قال تعالى :  فأرسلنا اليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا قالت انى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا وقال تعالى :  ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وكذلك طمس أبصار قوم لوط كان بواسطة الملائكة والذي عنده علم من الكتاب لما قال عفريت من الجن لسليمان أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك واني عليه لقوي أمين قال الذي عنده علم من الكتاب انا آتيك به قبل أن يرتد اليك طرفك أتته به الملائكة كذلك ذكره المفسرون عن ابن عباس وغيره أن الملائكة أتته به أسرع مما كان يأتي به العفريت وقد أخبر الله تعالى :  أنه أيد محمدا صلى الله عليه و سلم بالملائكة وبالريح وقال تعالى :  فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا وقال تعالى :  يوم حنين فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وقال تعالى :  يوم الغار فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وقال تعالى :  اذ يوحي ربك الى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب وقد ثبت في الصحيح أن الانسان يصوره ملك في الرحم بإذن الله ويقول الملك أي رب نطفة أي رب علقة أي رب مضغة فاذا كان الخلق المعتاد يكون بتوسط الملائكة فإنه يقرر التوحيد بقوله تعالى :  يا أيها الناس اعبدوا ربكم الآيات ثم النبوة بقوله وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا ثم المعاد وكذلك الانعام يقرر التوحيد ثم النبوة في وسطها ثم يختمها بأصول الشرائع والتوحيد أيضا وهو ملة ابراهيم وهذا مبسوط في غير هذا الموضع والمقصود أنه قد يبين انفراده بالخلق والنفع والضر والاتيان بالآيات وغير ذلك وإن ذلك لا يقدر عليه غيره قال تعالى :  أفمن يخلق كمن لا يخلق وقال تعالى :  وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى :  عما يصفون بديع السماوات والارض انى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليك ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدون وهو على كل شيء وكيل لا تدركه الابصار وهو اللطيف الخبير قد جاءكم بصائر من ربكم فمن ابصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ وكذلك نفصل الايات وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم ألى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون ففي هذه الآيات تقرير التوحيد حتى في إنزال الآيات قال إنما الآيات عند الله وكذلك قوله في العنكبوت وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما انا نذير مبين أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا يعلم ما في السموات والارض والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون وقال أيضا وقالوا لولا أنزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون هذا بعد قوله فان استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين وهو أرسله بآيات بان بها الحق وقامت بها الحجة وكانوا يطلبون آيات تعنتا فيظن من يظن أنهم يهتدون بها لكن لا يحصل بها المقصود وقد تكون موجبة لعذاب الاستئصال فتكون ضررا بلا نفع وبين سبحانه أنه قادر على انزال الآيات وأنها ليست إلا عنده وغير أفعال العباد قد اتفق الناس على أنه لا يخلقه الا الله وإنما تنازعوا في أفعال العباد والصواب انها أفعال لهم وهي مخلوقة لله لكن آيات الانبياء لا تكون مما يقدر عليه العبد كما قال قل إنما الآيات عند الله والملائكة إنما هي سبب من الأسباب كما في خلق المسيح من غير أب فجبريل إنما كان مقدوره النفخ فيها وهذا لا يوجب الخلق بل هو بمنزلة الانزال في حق غير المسيح وكذلك المسيح لما خلق من الطين كهيئة الطير إنما مقدوره تصوير الطين وإنما حصول الحياة فيه فباذن الله يحيي ويميت وهذا من خصائصه ولهذا قال الخليل ربي الذي يحيي ويميت وفي القرآن في غير مواضع يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي وكنتم أمواتا فأحياكم يحيي الارض بعد موتها والله يحيي ويميت .

وما يتولد عن أفعال الملائكة وغيرهم ليسوا مستقلين به بل لهم فيه شركة كطمس ابصار اللوطية وقلب مدينتهم وكذلك النصر إنما يقدرون على القتال كالانس والنصر هو من عند الله كما قال تعالى :  وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله والقرآن إنما يقدرون على النزول به لا على إحداثه ابتداء فهم يقدرون على الاتيان بمثله من عند الله وأما الجن والانس فلا يقدرون على الاتيان بمثله لأن الله لا يكلم بمثله الجن والانس ابتداء ولهذا قال لا يأتون بمثله وقال تعالى :  فأتوا بسورة من مثله وقال فأتوا بعشر سور مثله وقال فليأتوا بحديث مثله ان كانوا صادقين لم يكلفهم نفس الإحداث بل طالبهم بالاتيان بمثله إما إحداثا وإما تبليغا عن الله أو عن مخلوق ليظهر عجزهم من جميع الجهات فقد يقال فنفس أفعال العباد ليست من الآيات إذ كانت مقدورة ومفعولة للعبد وإن كان ذلك بأقدار الله تعالى :  ولا نفس القدرة على ذلك الفعل فإن المقصود من القدرة هو الفعل بل الآيات خارجة عن مقدور جميع العباد الملائكة والجن والانس وهي أيضا لا تنال بالاكتساب فإن الإنس والجن قد يقدرون بأسباب مباينة لهم على أمور كما يقدرون على قتل من يقتلونه وإمراضه ونحو ذلك وآيات الانبياء لا يقدر أحد أن يتوصل اليها بسبب والسحر والكهانة مما يمكن التوصل اليه بسبب كالذي يأتي بأقوال وأفعال تحدثه بها الجن فالنبوة لا تنال بكسب العبيد ولا آياتها تحصل بكسب العباد وهذا من الفروق بين آيات الانبياء وبين السحر والكهانة وبينهما فروق كثرة أكثر من عشرة

أحدها أن ما تخبر به الانبياء لا يكون الا صدقا وأما ما يخبرهم به من خالفهم من السحرة والكهان وعباد المشركين وأهل الكتاب وأهل البدع والفجور من المسلمين فإنه لا بد فيه من الكذب .

الثاني أن الانبياء لا تأمر الا بالعدل ولا تفعل الا العدل وهؤلاء المخالفون لهم لا بد لهم من الظلم فإن من خالف العدل لا يكون الا ظلما فيدخلون في العدوان على الخلق وفعل الفواحش والشرك والقول على الله بلا علم وهي المحرمات التي حرمها الله مطلقا كما قال تعالى :  قل انما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغي بغير الحق وان تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله مالا تعلمون الثالث أن ما يأتي به من يخالفهم معتاد لغير الانبياء كما هو معتاد للسحرة والكهان وعباد المشركين وأهل الكتاب وأهل البدع والفجور وآيات الانبياء هي معتادة أنها تدل على خبر الله وأمره على حكمه فتدل على أنهم أنبياء وعلى صدق من أخبر بنبوتهم سواء كانوا هم المخبرين أو غيرهم وكرامات الاولياء هي من هذا فإنهم يخبرون بنبوة الانبياء وكذلك أشراط الساعة هي أيضا تدل على صدق الانبياء اذ كانوا قد أخبروا بها فالذي جعله أولئك من كرامات الاولياء وأشراط الساعة ناقضا لآيات الانبياء اذ هو من جنسها ولا يدل عليها فأولئك كذبوا بالموجود وهؤلاء سووا بين الآيات وغيرها فلم تكن في الحقيقة عندهم آية وكانت الآيات عند أولئك منتقضة وأولئك نصروا جهلهم بالتكذيب بالحق وهؤلاء نصروا جهلهم أيضا بقول الباطل فقالوا ان الآية هي المقرونة بالدعوى التي لا تعارض وزعموا أنه لا يمكن معارضة السحر والكهانة اذا جعل آية وأنه اذا لم يعارض كان آية وهو تكذيب بالحق أيضا فإنه قد ادعاه غير نبي ولم يعارض فالطائفتان أدخلت في الآيات ما ليس منها وأخرجت منها ما هو منها فكرامات الاولياء واشراط الساعة من آيات الانبياء وأخرجوها والسحر والكهانة ليس من آياتهم وأدخلوها أو سووا بينها وبين الآيات بل ونوابها .

الرابع أن آيات الانبياء والنبوة لو قدر أنها تنال بالاكتساب فهي انما تنال بعبادة الله وطاعته فإنه لا يقول عاقل ان أحدا يصير نبيا بالكذب والظلم بل بالصدق والعدل سواء قال ان النبوة جزاء على العمل أو قال انه اذا زكى نفسه فاض عليه ما يفيض على الانبياء فعلى القولين هي مستلزمة لالتزام الصدق والعدل وحينئذ فيمتنع أن صاحبها يكذب على الله فإن ذلك يفسدها بخلاف من خالف الانبياء من السحرة والكهان وعباد المشركين وأهل البدع والفجور من أهل الملل واهل الكتاب والمسلمين فإن هؤلاء تحصل لهم الخوارق مع الكذب والإثم بل خوارقهم مع ذلك أشد لأنهم يخالفون الانبياء وما ناقض الصدق والعدل لم يكن إلا كذبا وظلما فكل من خالف طريق الانبياء لا بد له من الكذب والظلم اما عمدا واما جهلا وقوله تعالى :  تنزل على كل أفاك أثيم ليس من شرطه أن يتعمد الكذب بل من كان جاهلا يتكلم بلا علم فيكذب فان الشياطين تنزل عليه أيضا اذ من أخبر عن الشيء بخلاف ما هو عليه من غير اجتهاد يعذر به فهو كذاب ولهذا يصف الله المشركين بالكذب وكثير منهم لا يتعمد ذلك وكذلك قال النبي صلى الله عليه و سلم لما أفتى ابو السنابل بأن المتوفي عنها الحامل لا تحل بوضع الحمل بل تعتد أبعد الاجلين فقال كذب أبو السنابل أي في قوله بأن المتوفي عنها الحامل لا تحل بوضع الحمل بل تعتد أبعد الاجلين وكذلك لما قال بعضهم ابن الاكوع حبط عمله قال النبي صلى الله عليه و سلم كذب من قالها انه لجاهد مجاهد ونظائره كثيرة فالانبياء لا يقع في إخبارهم عن الله كذب لا عمدا ولا خطأ وكل من خالفهم لا بد أن يقع في خبره عن الله كذب ضرورة فإن خبره اذا لم يكن مطابقا لخبرهم كان مخالفا له فيكون كذبا فالذي تنزل عليه الشياطين اذا ظن واعتقد انهم جاءوا من عند الله وأخبر بذلك كان كاذبا وكذلك اذا قال عما أوحوه اليه إن الله أوحاه اليه كان كاذبا قال تعالى :  ان الشياطين ليوحون الى أوليائهم ليجادلوكم ولما شاع خبر المختار بن أبي عبيد وهو أول من ظهر في الاسلام بالكذب في هذا وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال يكون في ثقيف كذاب ومبير فكان الكذاب هو المختار بن أبي عبيد وكان يتشيع لعلي ولهذا يوجد الكذب في الشيعة اكثر مما يوجد في جميع الطوائف والمبير هو الحجاج بن يوسف وكان ظالما معتديا وكان يتشيع لعثمان والمختار يتشيع لعلي فذكر لابن عمر وابن عباس امر المختار وقيل لأحدهما إنه يزعم أنه يوحى اليه فقال صدق ان الشياطين ليوحون الى أوليائهم وقيل للآخر إنه يزعم أنه ينزل عليه فقال صدق هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم .

الخامس أن ما يأتي به السحرة والكهان والمشركون وأهل البدع من أهل الملل لا يخرج عن كونه مقدورا للانس والجن وآيات الانبياء لا يقدر على مثلها لا الانس ولا الجن كما قال تعالى :  قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا .

  • Digg
  • Del.icio.us
  • StumbleUpon
  • Reddit
  • RSS

مجموع الفتاوى

شيخ الإسلام ابن تيمية
أحمد عبد الحليم بن تيمية الحراني
661-728
ايضاح الدلالة في عموم الرســالة
الفصل الأول
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: يجب على الإنسان أن يعلم ان الله عز وجل أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم الى جميع الثقلين الإنس والجن وأوجب عليهم الايمان به وبما جاء به وطاعته وان يحللوا ما حلل الله ورسوله ويحرموا ما حرم الله ورسوله وأن يوجبوا ما أوجبه الله ورسوله ويحبوا ما احبه الله ورسوله ويكرهوا ما كرهه الله ورسوله وأن كل من قامت عليه الحجة برسالة  محمد صلى الله عليه وسلم من الانس والجن فلم يؤمن به استحق عقاب الله تعالى كما يستحقه أمثاله من الكافرين الذين بعث اليهم الرسول وهذا أصل متفق عليه بين الصحابة والتابعين لهم باحسان وأئمة المسلمين وسائر طوائف المسلمين أهل السنة والجماعة وغيرهم رضى الله عنهم اجمعين لم يخالف أحد من طوائف المسلمين فى وجود الجن ولا فى ان الله أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم اليهم وجمهور طوائف الكفار على اثبات الجن أما أهل الكتاب من اليهود والنصارى فهم مقرون بهم كاقرار المسلمين وان وجد فيهم من ينكر ذلك وكما يوجد فى المسلمين من ينكر ذلك كما يوجد فى طوائف المسلمين كالجهمية والمعتزلة من ينكر ذلك وان كان جمهور الطائفة وأئمتها مقرين بذلك وهذا لأن وجود الجن تواترت به اخبار الأنبياء تواترا معلوما بالإضطرار ومعلوم بالإضطرار انهم أحياء عقلاء فاعلون بالإرادة بل مأمورون منهيون ليسوا صفات واعراضا قائمة بالانسان او غيره كما يزعمه بعض الملاحدة فلما كان أمر الجن متواترا عن الأنبياء تواترا ظاهرا تعرفه العامة والخاصة لم يمكن طائفة كبيرة من الطوائف المؤمنين بالرسل أن تنكرهم كما لم يمكن لطائفة كبيرة من الطوائف المؤمنين بالرسل انكار الملائكة ولا انكار معاد الأبدان ولا انكار عبادة اله وحده لا شريك له ولا انكار أن يرسل الله رسولا من الانس الى خلقه ونحو ذلك مما تواترت به الأخبار عن الأنبياء تواترا تعرفه العامة والخاصة كما تواتر عند العامة والخاصة مجىء موسى الى فرعون وغرق فرعون ومجىء المسيح الى اليهود وعداوتهم له وظهور محمد صلى الله عليه وسلم بمكة وهجرته الى المدينة ومجيئه بالقرآن والشرائع الظاهرة وجنس الآيات الخارقة التى ظهرت على يديه كتكثير الطعام والشراب والاخبار بالغيوب الماضية والمستقبلة التى لا يعلمها بشر إلا باعلام الله وغير ذلك ، ولهذا أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بسؤال أهل الكتاب عما تواتر عندهم كقولـه: وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحى اليهم فاسألوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون ، فان من الكفار من أنكر أن يكون لله رسول بشر فأخبر الله ان الذين أرسلهم قبل محمد كانوا بشرا  وامر بسؤال أهل الكتاب عن ذلك لمن لا يعلم وكذلك سؤالهم عن التوحيد وغيره مما جاءت به الأنبياء وكفر به الكافرون ،قال تعالى: قل كفى بالله شهيدا بينى وبينكم ومن عنده علم الكتاب ، وقال تعالى : فان كنت فى  شك مما أنزلنا اليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك وقال تعالى: قل أرأيتم ان كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بنى اسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم ، وكذلك شهادة أهل الكتاب بتصديق ما أخبر به من أنباء الغيب التى لا يعلمها إلا نبى أو من أخبره نبى وقد علموا أن محمدا لم يتعلم من أهل الكتاب شيئا وهذا غير شهادة أهل الكتاب له نفسه بما يجدونه من نعته فى كتبهم كقوله تعالى: أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بنى اسرائيل وقوله تعالى: والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق وأمثال ذلك ، وهذا بخلاف ما تواتر عند الخاصة من أهل العلم كأحاديث الرؤية وعذاب القبر وفتنته وأحاديث الشفاعة والصراط والحوض فهذا قد ينكره بعض من لم يعرفه من اهل الجهل والضلال.

ولهذا أنكر طائفة من المعتزلة كالجبائى وأبى بكر الرازى وغيرهما دخول الجن فى بدن المصروع ولم ينكروا وجود الجن إذ لم يكن ظهور هذا فى المنقول عن الرسول كظهور هذا وان كانوا مخطئين فى ذلك ولهذا ذكر الأشعرى فى مقالات اهل السنة والجماعة أنهم يقولون ان الجنى يدخل فى بدن المصروع كما قال تعالى الذين يأكلون الربا لا يقومون الا كما يقوم الذى يتخبطه الشيطان من المس وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل قلت لأبى ان قوما يزعمون أن الجنى لا يدخل فى بدن الانسى فقال يا بني يكذبون هو ذا يتكلم على لسانه وهذا مبسوط فى موضعه والمقصود هنا أن جميع طوائف المسلمين يقرون بوجود الجن وكذلك جمهور الكفار كعامة أهل الكتاب وكذلك عامة مشركى العرب وغيرهم من أولاد سام والهند وغيرهم من أولاد حام وكذلك جمهور الكنعانيين واليونانيين  وغيرهم من أولاد يافث فجماهير الطوائف تقر بوجود الجن بل يقرون بما يستجلبون به معاونة الجن من العزائم والطلاسم سواء أكان ذلك سائغا عند أهل الايمان او كان شركا فان المشركين يقرأون من العزائم والطلاسم والرقى ما فيه عبادة للجن وتعظيم لهم وعامة ما بأيدى الناس من العزائم والطلاسم والرقى التى لا تفقه بالعربية فيها ما هو شرك بالجن ولهذا نهى علماء المسلمين عن الرقى التى لا يفقه معناه لأنها مظنة الشرك وان لم يعرف الراقى انها شرك وفى صحيح مسلم عن عوف بن مالك الأشجعى قال كنا نرقى فى الجاهلية فقلنا يارسول الله كيف ترى فى ذلك فقال اعرضوا على رقاكم لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك وفى صحيح مسلم أيضا عن جابر قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرقى فجاء آل عمرو بن حزم الى رسول الله صلى الله عليه  وسلم فقالوا يا رسول الله انه كانت عندنا رقية نرقى بها من العقرب وانك نهيت عن الرقى قال فعرضوها عليه فقال ما أرى بأسا من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه.

وقد كان للعرب ولسائر الامم من ذلك امور يطول وصفها واخبار العرب فى ذلك متواترة عند من يعرف اخبارهم من علماء المسلمين وكذلك عند غيرهم  ولكن المسلمين اخبر بجاهلية العرب منهم بجاهلية سائر الأمم إذ كان  خير القرون كانوا عربا وكانوا قد عاينوا وسمعوا ما كانوا عليه فى الجاهلية  وكان ذلك من أسباب نزول القرآن فذكروا فى كتب التفسير والحديث  والسير والمغازى والفقه فتواترت ايام جاهلية العرب فى المسلمين  وإلا فسائر الأمم المشركين هم من جنس العرب المشركين فى هذا وبعضهم كان أشد كفرا وضلالا من مشركى العرب وبعضهم أخف والآيات التى أنزلها الله على محمد صلى الله عليه وسلم فيها خطاب لجميع  الخلق من الانس والجن إذ كانت رسالته عامة للثقلين وان كان من أسباب نزول الايات ما كان موجودا فى العرب فليس شىء من الآيات مختصا بالسبب المعين الذى نزل فيه باتفاق المسلمين وانما تنازعوا هل يختص بنوع السبب المسؤول عنه وأما بعين السبب فلم يقل احد من المسلمين ان آيات الطلاق أو الظهار او اللعان أو حد السرقة والمحاربين وغير ذلك يختص بالشخص المعين الذى كان سبب نزول الآية وهذا الذى يسميه بعض الناس تنقيح المناط وهو أن يكون الرسول صلىالله عليه وسلم حكم فى معين وقد علم ان الحكم لا يختص به  فيريد أن ينقح مناط الحكم ليعلم النوع الذى حكم فيه كما أنه لما أمر الاعرابى الذى واقع امرأته فى رمضان بالكفارة وقد علم ان الحكم لا يختص به وعلم أن كونه أعرابيا أو عربيا أو الموطوءة زوجته لا أثر له فلو وطىء المسلم العجمى سريته كان الحكم كذلك ولكن هل المؤثر فى الكفارة كونه مجامعا فى رمضان أو كونه مفطرا فالأول مذهب الشافعى وأحمد فى المشهور عنه والثانى مذهب مالك وأبى حنيفة وهو رواية منصوصة عن أحمد فى الحجامة فغيرها أولى ثم مالك يجعل المؤثر جنس المفطر وأبو حنيفة يجعلها المفطر كتنوع جنسه فلا يوجبه فى ابتلاع الحصاة والنواة وتنازعوا هل يشترط أن يكون أفسد صوما صحيحا وأحمد لا يشترط ذلك بل كل امساك وجب فى شهر رمضان أوجب فيه الكفارة كما يوجب الأربعة مثل ذلك فى الاحرام الفاسد فالصيام الفاسد عنده كالاحرام  الفاسد كلاهما يجب اتمامه والمضى فيه والشافعى وغيره لا يوجبونها إلا فى صوم صحيح والنزاع فيمن أكل ثم جامع او لم ينو الصوم  ثم جامع ومن جامع وكفر ثم جامع ومثل قوله لمن أحرم بالعمرة فى جبة متضخما بالخلوق انزع عنك الجبة واغسل أثر الصفرة هل أمره بالغسل لكون المحرم لا يستديم الطيب كما يقوله مالك أو لكونه نهى أن يتزعفر الرجل فلا يمنع من استدامة الطيب كقول الثلاثة وعلى الأول فهل هذا الحديث منسوخ بتطييب عائشة له فى حجة الوداع ومثل قوله لما سئل عن فأرة وقعت فى  سمن القوها وما حولها وكلوا سمنكم هل المؤثر عدم التغير بالنجاسة او  بكونه جامدا أو كونها فأرة وقعت فى سمن فلا يتعدى الى سائر المائعات ومثل هذا كثير وهذا لابد منه فى الشرائع ولا يسمى قياسا عند كثير  من العلماء كأبى حنيفة ونفاة القياس لاتفاق الناس علىالعمل به كما اتفقوا على تحقيق المناط وهو أن يعلق الشارع الحكم بمعنى كلى فينظر فى ثبوته فى بعض الأنواع أو بعض الأعيان كأمره باستقبال الكعبة  وكأمره بإستشهاد شهيدين من رجالنا ممن نرضى من الشهداء وكتحريمه الخمر والميسر وكفرضه تحليل اليمين بالكفارة وكتفريقه بين الفدية  والطلاق وغير ذلك فيبقى النظر فى بعض الأنواع هل هى خمر ويمين وميسر وفدية أو طلاق وفى بعض الأعيان هل هى من هذا النوع وهل هذا المصلى مستقبل القبلة وهذا الشخص عدل مرضى ونحو ذلك فان هذا النوع من الاجتهاد متفق عليه بين المسلمين بل بين العقلاء فيما يتبعونه من شرائع دينهم وطاعة ولاة أمورهم ومصالح دنياهم وآخرتهم  وحقيقة ذلك يرجع الى تمثيل الشىء بنظيره وادراج الجزئى تحت الكلى وذاك يسمى قياس التمثيل وهذا يسمى قياس الشمول وهما متلازمان فان القدر المشترك بين الافراد فى قياس الشمول الذى يسميه المنطقيون الحد الأوسط هو القدر المشترك فى قياس التمثيل الذى يسميه الأصوليون الجامع  والمناط والعلة والامارة والداعى والباعث والمقتضى والموجب والمشترك  وغير ذلك من العبارات وأما تخريج المناط وهو القياس المحض وهو أن ينص على حكم فى امور قد يظن أنه يختص الحكم بها فيستدل على أن غيرها مثلها إما لانتفاء الفارق أو للإشتراك فى الوصف الذى  قام الدليل على أن الشارع علق الحكم به فى الأصل فهذا هو القياس الذى تقر به جماهير العلماء وينكره نفاة القياس وإنما يكثر الغلط فيه لعدم العلم بالجامع المشترك الذى علق الشارع الحكم به وهو الذى يسمى سؤال المطالبة وهو مطالبة المعترض للمستدل بأن الوصف المشترك بين الأصل والفرع هو علة الحكم أو دليل العلة فأكثر غلط القائسين من ظنهم علة فى الأصل ما ليس بعلة ولهذا كثرت شناعاتهم على أهل القياس الفاسد فأما إذا قام دليل على الغاء الفارق وانه ليس بين الأصل والفرع فرق يفرق الشارع لأجله بين الصورتين أو قام الدليل على ان المعنى الفلانى هو الذى لأجله حكم الشارع بهذا الحكم فى الأصل وهو موجود فى صورة أخرى فهذا القياس لا ينازع فيه الا من لم يعرف هاتين المقدمتين وبسط هذا له موضع آخر والمقصود هنا أن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم شاملة للثقلين الإنس والجن على إختلاف أجناسهم فلا يظن أنه خص العرب بحكم من الأحكام أصلا بل إنما علق الأحكام بإسم مسلم وكافر ومؤمن ومنافق وبر وفاجر ومحسن وظالم وغير ذلك من الأسماء المذكورة فى القرآن والحديث وليس فى القرآن ولا الحديث تخصيص العرب بحكم من أحكام الشريعة ولكن بعض العلماء ظن في بعض الأحكام وخالفه الجمهور كما ظن طائفة منهم أبو يوسف أنه خص العرب بأن لا يسترقوا وجمهور المسلمين على أنهم يسترقون كما صحت بذلك الأحاديث الصحيحة حيث إسترق بنى المصطلق وفيه جويرية بنت الحارث ثم أعتقها وتزوجها وأعتق بسببها من إسترق من قومها وقال فى حديث هوزان اختاروا احدى الطائفتين اما السبى واما المال وفى الصحيحين عن أبي أيوب الأنصارى عن رسول الله صلى الله عليه  وسلم أنه قال من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير عشر مرات كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل وفى الصحيحين أيضا عن أبي هريرة أنه كانت سبية من سبى هوازن عند عائشة فقال أعتقيها فإنها من ولد اسماعيل وعامة من استرقه الرسول صلى الله عليه وسلم من النساء والصبيان كانوا عربا وذكر هذا يطول ولكن عمر بن الخطاب لما رأى كثرة السبى من العجم وإستغناء الناس عن إسترقاق العرب رأى أن يعتقوا العرب من باب مشورة الإمام وأمره بالمصلحة لا من باب الحكم الشرعى الذى يلزم الخلق كلهم فأخذ من أخذ بما ظنه من قول عمر وكذلك ظن من ظن أن الجزية لا تؤخذ من مشركى العرب مع كونها تؤخذ من سائر المشركين وجمهور العلماء على أنه لا يفرق بين العرب وغيرهم ثم منهم من يجوز أخذها من كل مشرك ومنهم من لا يأخذها الا من أهل الكتاب والمجوس وذلك أن النبى صلى الله عليه لم يأخذ الجزية من مشركي العرب وأخذها من المجوس وأهل الكتاب فمن قال تؤخذ من كل كافر قال ان آية الجزية لما نزلت أسلم مشركوا العرب فإنها نزلت عام تبوك ولم يبق عربى مشرك محاربا ولم يكن النبى صلى الله عليه وسلم ليغزو النصارى عام تبوك بجميع المسلمين الا من عذر الله ويدع الحجاز وفيه من يحاربه ويبعث أبا بكر عام تسع فنادى فى الموسم أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ونبذ العهود المطلقة وأبقى المؤقته مادام أهلها موفين بالعهد كما أمر الله بذلك فى أول سورة التوبة وأنظر الذين نبذ إليهم أربعة أشهر وأمر عند إنسلاخها بغزو المشركين كافة قالوا فدان المشركون كلهم كافة بالاسلام ولم يرض بذل أداء الجزية لأنه لم يكن لمشركي العرب من الدين بعد ظهور دين الإسلام ما يصبرون لأجله على أداء الجزية عن يد وهم صاغرون إذ كان عامة العرب قد أسلموا فلم يبق لمشركى العرب عز يعتزون به فدانوا بالإسلام حيث أظهره الله فى العرب بالحجة والبيان والسيف والسنان وقول النبى صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة مراده قتال المحاربين الذين أذن الله فى قتالهم لم يرد قتال المعاهدين الذين أمر الله بوفاة عهدهم وكان النبى صلى الله عليه وسلم قبل نزول براءة يعاهد من عاهده من الكفار من غير أن يعطى الجزية عن يد فلما أنزل الله براءة وأمره بنبذ العهود المطلقة لم يكن له أن يعاهدهم كما كان يعاهدهم بل كان عليه أن يجاهد الجميع كما قال فإذا إنسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فان تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ان الله غفور رحيم وكان دين أهل الكتاب خيرا من دين المشركين ومع هذا فأمروا بقتالهم حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون فإذا كان أهل الكتاب لا تجوز معاهدتهم كما كان ذلك قبل نزول براءة فالمشركون أولى بذلك أن لا تجوز معاهدتهم بدون ذلك قالوا فكان فى تخصيص أهل الكتاب بالذكر تنبيها بطريق الأولى على ترك معاهدة المشركين بدون الصغار والجزية كما كان يعاهدهم فى مثل هدنة الحديبية وغير ذلك من المعاهدات قالوا وقد ثبت فى الصحيح من حديث بريدة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه فى خاصته بتقوى الله ومن معه من  المسلمين خيرا ثم قال اغزوا بسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله أعزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم الى ثلاث خصال أو خلال فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم  وكف عنهم ادعهم الى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم الى التحول من دارهم الى دار المهاجرين وأخبرهم أنهم ان فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين فان أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجرى عليهم حكم الله الذى  يجرى على المؤمنين ولا يكون لهم فى الغنيمة والفىء شىء الا أن يجاهدوا  مع المسلمين فإن هم أبوا فاسألهم الجزية فان هم أجابوك فاقبل منهم  وكف عنهم فإن هم أبوا فإستعن بالله عليهم وقاتلهم وإذا حاصرت أهل  حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك فانكم أن تخفروا ذممكم  وذمة أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله واذا حاصرت اهل حصن فأرادوك ان تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدرى أتصيب حكم الله فيهم أم لا قالوا ففى الحديث أمره لمن أرسله أن يدعو الكفار الى الإسلام ثم الى الهجرة الى الأمصار والا فالى أداء الجزية وإن لم يهاجروا كانوا كأعراب المسلمين والأعراب عامتهم كانوا مشركين فدل على أنه دعا الى أداء الجزية من حاصره من المشركين وأهل الكتاب والحصون كانت باليمن كثيرة بعد نزول آية الجزية وأهل اليمن كان فيهم مشركون وأهل كتاب وأمر معاذا أن يأخذ من كل حالم دينارا أو عد له  معافريا ولم يميز بين المشركين وأهل الكتاب فدل ذلك على أن المشركين من العرب آمنوا كما آمن من آمن من أهل الكتاب ومن لم يؤمن من أهل الكتاب أدى الجزية وقد أخذ النبى صلى الله عليه وسلم الجزية من أهل البحرين وكانوا مجوسا وأسلمت عبد القيس وغيرهم من أهل البحرين طوعا ولم يكن النبى صلى الله عليه وسلم ضرب الجزية على أحد من اليهود بالمدينة ولا بخيبر بل حاربهم قبل نزول آية الجزية وأقر اليهود بخيبر فلاحين بلا جزية الى أن أجلاهم عمر لأنهم كانوا مهادنين له وكانوا فلاحين فى الأرض فأقرهم لحاجة المسلمين إليهم ثم أمر بإجلائهم قبل موته وأمر بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب فقيل هذا الحكم مخصوص بجزيرة العرب وقيل بل هو عام فى جميع أهل الذمة  إذا إستغنى المسلمون عنهم أجلوهم من ديار الإسلام وهذا قول ابن جرير وغيره ومن قال أن الجزية لا تؤخذ من مشرك قال ان آية الجزية نزلت والمشركون موجودون فلم يأخذها منهم والمقصود أنه لم يخص العرب بحكم وان قيل أنه خص جزيرة العرب التى هى حول المسجد الحرام كما خص المسجد الحرام بقوله انما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وكذلك من قال من العلماء أنه حرم على جميع المسلمين ما تستخبثه العرب وأحل لهم ما تستطيبه فجمهور العلماء على خلاف هذا القول كمالك وأبى حنيفة وأحمد وقدماء أصحابه ولكن الخرقى وطائفة منهم وافقوا الشافعى على هذا القول وأما أحمد نفسه فعامة نصوصه موافقة لقول جمهور العلماء وما كان عليه الصحابة والتابعون أن التحليل والتحريم لا يتعلق بإستطابة العرب ولا بإستخباثهم بل كانوا يستطيبون أشياء  حرمها الله كالدم والميتة والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وأكيلة السبع وما أهل به لغير الله وكانوا بل خيارهم يكرهون أشياء لم يحرمها الله حتى لحم الضب كان النبى صلى الله عليه وسلم يكرهه وقال لم  يكن بأرض قومي فأجدنى أعافه وقال مع هذا أنه ليس بمحرم وأكل على مائدته وهو ينظر وقال فيه لا آكله ولا أحرمه وقال جمهور العلماء الطيبات التى أحلها الله ما كان نافعا لآكلة فى دينه والخبيث ما كان ضارا له فى دينه وأصل الدين العدل الذى بعث الله الرسل بإقامته فما أورث الآكل بغيا وظلما حرمه كما حرم كل ذى ناب من السباع لأنها باغية عادية والغاذى شبيه بالمغتذى فإذا تولد اللحم منها صار فى الإنسان خلق البغى والعدوان وكذلك الدم يجمع قوى النفس من الشهوة والغضب فإذا إغتذى منه زادت شهوته وغضبه على المعتدل ولهذا لم يحرم منه الا المسفوح بخلاف القليل فانه لا يضر ولحم الخنزير يورث عامة الأخلاق الخبيثة إذ كان أعظم الحيوان فى أكل كل شىء لا يعاف شيئا والله لم يحرم على أمة محمد شيئا من الطيبات وإنما حرم ذلك على أهل الكتاب كما قال تعالى فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وقال تعالى وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذى ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما الا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما إختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وانا  لصادقون وأما المسلمون فلم يحرم عليهم الا الخبائث كالدم المسفوح فاما غير المسفوح كالذى يكون فى العروق فلم يحرمه بل ذكرت عائشة أنهم كانوا يضعون اللحم فى القدر فيرون آثار الدم فى القدر ولهذا عفى جمهور الفقهاء عن الدم اليسير فى البدن والثياب إذا كان غير مسفوح وإذا عفى عنه فى الأكل ففى اللباس والحمل أولى أن يعفى عنه وكذلك ريق الكلب يعفى عنه عند جمهور العلماء فى الصيد كما هو مذهب مالك وأبى حنيفة وأحمد فى أظهر القولين فى مذهبه وهو أحد الوجهين فى مذهب الشافعى وان وجب غسل الإناء من ولوغه عند جمهورهم  إذ كان الريق فى الولوغ كثيرا ساريا فى المائع لا يشق الإحتراز منه بخلاف ما يصيب الصيد فإنه قليل ناشف فى حامد يشق الإحتراز منه وكذلك التقديم فى إمامة الصلاة بالنسب لا يقول به أكثر العلماء وليس فيه نص عن النبى صلى الله عليه وسلم بل الذي ثبت فى الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فان كانوا فى القراة سواء فأعلمهم بالسنة فان كانوا فى السنة سواء فأقدمهم هجرة فان كانوا فى الهجرة سواء فأقدمهم سنا فقدمه صلى الله عليه وسلم بالفضيلة العلمية ثم بالفضيلة العملية وقدم العالم بالقرآن على العالم بالسنة ثم الأسبق الى الدين بإختياره ثم الأسبق الى الدين بسنه ولم يذكر النسب وبهذا أخذ أحمد وغيره فرتب الأئمة كما رتبهم النبى صلى الله عليه وسلم ولم يذكر النسب وكذلك أكثر العلماء كمالك وأبى حنيفة لم يرجحوا بالنسب ولكن رجح به الشافعى وطائفة من أصحاب أحمد كالخرقى وابن حامد والقاضى وغيرهم وإحتجوا بقول سلمان الفارسى أن لكم علينا معشر العرب ألا نؤمكم فى صلاتكم ولا تنكح نساءكم والأولون يقولون إنما قال سلمان هذا تقديما منه للعرب على الفرس  كما يقول الرجل لمن هو أشرف منه حقك على كذا وليس قول سلمان حكما شرعيا يلزم جميع الخلق اتباعه كما يحب عليهم اتباع أحكام الله ورسوله ولكن من تأسى من الفرس بسلمان فله به أسوة حسنة فإن سلمان سابق الفرس وكذلك إعتبار النسب فى أهل الكتاب ليس هو قول أحد من الصحابة ولا يقول به جمهور العلماء كمالك وأبى حنيفة وأحمد بن حنبل وقدماء أصحابه ولكن طائفة منهم ذكرت عنه روايتين واختار بعضهم إعتبار النسب موافقة للشافعى والشافعى أخذ ذلك عن  عطاء وبسط هذا له موضع آخر والمقصود هنا أن النبى صلى الله عليه  وسلم أنما علق الأحكام بالصفات المؤثرة فيما يحبه الله وفيما يبغض  فامر بما يحبه الله ودعا اليه بحسب الإمكان ونهى عما يبغضه الله  وحسم مادته بحسب الإمكان لم يخص العرب بنوع من أنواع الأحكام الشرعية  إذ كانت دعوته لجميع البرية لكن نزل القرآن بلسانهم بل نزل بلسان  قريش كما ثبت عن عمر بن الخطاب أنه قال لإبن مسعود أقرىء الناس بلغة قريش فإن القرآن  نزل بلسانهم وكما قال عثمان للذين يكتبون المصحف من قريش والأنصار إذا إختلفتم فى شىء فإكتبوه بلغة هذا الحى من قريش فإن القرآن  نزل بلسانهم وهذا لأجل التبليغ لأنه بلغ قومه أولا ثم بواسطتهم بلغ  سائر الأمم وأمره الله بتبليغ قومه أولا ثم بتبليغ الأقرب فالأقرب اليه كما  أمر بجهاد الأقرب فالأقرب وما ذكره كثير من العلماء من أن غير العرب  ليسوا أكفاء للعرب فى النكاح فهذه مسألة نزاع بين العلماء فمنهم من لا يرى الكفاءة إلا فى الدين ومن رآها فى النسب أيضا فإنه يحتج بقول عمر لأمنعن ذوات الإحساب الا من الأكفاء لأن النكاح مقصوده حسن الألفة فإذا كانت المرأة أعلى منصبا إشتغلت عن الرجل فلا يتم به المقصود وهذه حجة من جعل ذلك حقا لله حتى أبطل النكاح إذا زوجت المرأة بمن لا يكافئها فى الدين أو المنصب ومن جعلها حقا لآدمى قال ان فى ذلك غضاضة على أولياء المرأة وعليها الأمر اليهم فى ذلك ثم هؤلاء لا  يخصون الكفاءة بالنسب بل يقولون هى من الصفات التى تتفاضل بها النفوس  كالصناعة واليسار والحرية وغير ذلك وهذه مسائل إجتهادية ترد الى  الله والرسول فان جاء عن الله ورسوله ما يوافق أحد القولين فما جاء عن الله لا يختلف والا فلا يكون قول أحد حجة  على الله ورسوله وليس عن النبى صلى الله عليه وسلم نص صحيح  صريح فى هذه الأمور بل قد قال صلى الله عليه وسلم إن الله أذهب  عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء الناس رجلان مؤمن تقى وفاجر  شقى وفى صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال أربع فى أمتى من أمر الجاهلية لا يتركونهن الفخر بالأحساب والطعن فى الأنساب والنياحة والإستسقاء بالنجوم وقد ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال إن الله إصطفى كنانة من بنى إسماعيل وإصطفى قريشا من كنانة وإصطفى بني هاشم من قريش وإصطفانى من بنى هاشم فأنا خيركم  نفسا وخيركم نسبا وجمهور العلماء على أن جنس العرب خير من غيرهم  كما أن جنس قريش خير من غيرهم وجنس بنى هاشم خير من غيرهم وقد ثبت فى الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال الناس معادن  كمعادن الذهب والفضة خيارهم فى الجاهلية خيارهم فى الإسلام إذا  فقهوا لكن تفضيل الجملة على الجملة لا يستلزم أن يكون كل فرد أفضل  من كل فرد فان فى غير العرب خلق كثير خير من أكثر العرب وفى غير قريش من المهاجرين والأنصار من هو خير من أكثر قريش وفى غير بنى هاشم من قريش وغير قريش من هو خير من أكثر بنى هاشم  كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن خير القرون القرن الذين  بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم وفى القرون المتأخرة من هو خير من كثير من القرن الثانى والثالث ومع هذا فلم يخص النبى صلى  الله عليه وسلم القرن الثانى والثالث بحكم شرعى كذلك لم يخص العرب  بحكم شرعى بل ولا خص بعض أصحابه بحكم دون سائر أمته ولكن الصحابة لما كان لهم من الفضل أخبر بفضلهم وكذلك السابقون الأولون لم يخصهم بحكم ولكن أخبر بما لهم من الفضل لما إختصوا به من العمل وذلك لا يتعلق بالنسب والمقصود هنا أنه أرسل الى جميع الثقلين الإنس والجن فلم يخص العرب دون غيرهم من الأمم بأحكام شرعية ولكن خص قريشا بأن الأمامة فيهم وخص بنى هاشم بتحريم الزكاة عليهم وذلك لأن جنس قريش لما كانوا أفضل وجب أن تكون الإمامة فى أفضل الأجناس مع الامكان وليست الإمامة أمرا شاملا لكل أحد منهم وإنما يتولاها واحد من الناس وأما تحريم الصدقة فحرمها عليه وعلى أهل بيته تكميلا لتطهيرهم ودفعا للتهمة عنه كما لم يورث فلا يأخذ ورثته درهما ولا دينارا بل لا يكون له ولمن يمونه من مال الله الا نفقتهم وسائر مال الله يصرف فيما يحبه الله ورسوله وذوو قرباه يعطون بمعروف من مال الخمس والفيء الذى يعطى منه فى سائر مصالح المسلمين لا يختص بأصناف معينة كالصدقات ثم ما جعل لذوى القربى قد قيل أنه سقط بموته كما يقوله أبو حنيفة وقيل هو لقربى من يلى الأمر بعده كما روى عنه ما أطعم الله نبيا طعمة إلا كانت لمن يلى الأمر بعده وهذا قول أبى ثور وغيره  وقيل أن هذا كان مأخذ عثمان فى إعطاء بنى أمية وقيل هو لذوي قربى الرسول صلى الله عليه وسلم دائما ثم من هؤلاء من يقول هو مقدر بالشرع  وهو خمس الخمس كما يقوله الشافعى وأحمد فى المشهور عنه وقيل بل الخمس والفىء يصرف فى مصالح المسلمين بإجتهاد الإمام ولا يقسم على أجزاء مقدرة متساوية وهذا قول مالك وغيره وعن أحمد أنه جعل خمس الزكاة فيئا وعلى هذا القول يدل الكتاب والسنة وسيرة الخلفاء الراشدين وبسط هذه الأمور له موضع آخر والمقصود هنا أن بعض آيات القرآن وان كان سببه أمورا كانت فى العرب فحكم الآيات عام  يتناول ما تقتضيه الآيات لفظا .

 ومعنى في أي نوع كان محمد صلى الله عليه وسلم بعث الى الإنس والجن ، وجماهير الأمم يقر بالجن ولهم معهم وقائع يطول وصفها ولم ينكر الجن الا شرذمة قليلة من جهال المتفلسفة والأطباء ونحوهم وأما أكابر القوم فالمأثور عنهم اما الإقرار بها وأما أن لا يحكى عنهم فى ذلك قول ومن المعروف عن أبقراط أنه قال فى بعض المياه انه ينفع من الصرع لست أعني الذى يعالجه أصحاب الهياكل وإنما أعنى الصرع الذى يعالجه الأطباء وأنه قال طبنا مع طب أهل الهياكل كطب العجائز مع طبنا وليس  لمن أنكر ذلك حجة يعتمد عليها تدل على النفي وإنما معه عدم العلم  إذ كانت صناعته ليس فيها ما يدل على ذلك كالطبيب الذى ينظر فى البدن من جهة صحته ومرضه الذى يتعلق بمزاجه وليس فى هذا تعرض لما  يحصل من جهة النفس ولا من جهة الجن وان كان قد علم من غير طبه أن للنفس تأثيرا عظيما فى البدن أعظم من تأثير الأسباب الطبية ، وكذلك للجن تأثير فى ذلك كما قال النبى صلى الله عليه وسلم فى الحديث الصحيح ان الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وفى الدم الذى هو البخار الذى تسميه الأطباء الروح الحيواني المنبعث من القلب الساري فى  البدن الذي به حياة البدن كما   قد بسط هذا فى موضع آخر.

والمراد هنا أن محمدا صلى الله عليه وسلم أرسل الى الثقلين الإنس والجن وقد أخبر الله فى القرآن أن الجن استمعوا القرآن وأنهم آمنوا به كما قال تعالى: وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن  يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا إلى قوله أولئك فى ضلال مبين ثم أمره أن يخبر الناس بذلك فقال تعالى: قل أوحي الى أنه اسمتع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا الخ ، فأمره أن يقول ذلك ليعلم الإنس بأحوال الجن وأنه مبعوث إلى الإنس والجن لما فى ذلك من هدى الإنس والجن ما يجب عليهم من الإيمان بالله ورسله واليوم الآخر وما يحب من طاعة رسله ومن تحريم الشرك بالجن وغيرهم كما قال فى السورة وأنه كان رجال من الانس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا ، كان الرجل من الإنس ينزل بالوادي والأودية مظان الجن فإنهم يكونون بالأودية أكثر مما يكونون بأعالي الأرض فكان الإنسي يقول أعوذ بعظيم هذا الوادي من سفهائه فلما رأت الجن أن الإنس تستعيذ بها زاد طغيانهم وغيرهم وبهذا يجيبون المعزم والراقى بأسمائهم وأسماء ملوكهم فإنه يقسم عليهم بأسماء من يعظمونه   فيحصل لهم بذلك من الرئاسة والشرف على الإنس ما يحملهم على أن يعطوهم بعض سؤلهم لا سيما وهم يعلمون أن الإنس أشرف منهم وأعظم  قدرا فإذا خضعت الإنس لهم وإستعاذت بهم كان بمنزلة أكابر الناس إذا خضع لأصاغرهم ليقضى له حاجته ثم الشياطين منهم من يختار الكفر والشرك ومعاصي الرب وإبليس وجنوده من الشياطين يشتهون الشر ويلتذون به ويطلبونه ويحرصون عليه بمقتضى خبث أنفسهم  وان كان موجبا لعذابهم وعذاب من يغوونه كما قال ابليس فبعزتك  لأغوينهم أجمعين الا عبادك منهم المخلصين وقال تعالى قال أرأيتك  هذا الذى كرمت على لئن أخرتني إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا وقال تعالى ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فإتبعوه إلا فريقا من المؤمنين والإنسان إذا فسدت نفسه أو مزاجه يشتهي ما يضره ويلتذ به بل يعشق ذلك عشقا يفسد عقله ودينه وخلقه وبدنه وماله والشيطان هو نفسه خبيث فإذا تقرب صاحب العزائم والأقسام وكتب الروحانيات السحرية وأمثال ذلك اليهم بما يحبونه من الكفر والشرك صار ذلك كالرشوة والبرطيل لهم فيقضون بعض أغراضه كمن يعطى غيره مالا ليقتل له من يريد قتله أو يعينه على فاحشة أو ينال معه فاحشة ولهذا كثير من هذه الأمور يكتبون فيها كلام الله بالنجاسة وقد يقلبون حروف كلام الله عز وجل إما حروف الفاتحة وإما حروف قل هو الله أحد وأما غيرهما إما دم واما غيره واما بغير نجاسة أو يكتبون غير ذلك مما يرضاه الشيطان أو يتكلمون بذلك فإذا قالوا أو كتبوا ما ترضاه الشياطين أعانتهم على بعض أغراضهم أما تغوير ماء من المياة واما أن يحمل فى الهواء  الى بعض الأمكنة واما أن يأتيه بمال من أموال بعض الناس كما تسرقه الشياطين من أموال الخائنين ومن لم يذكر إسم الله عليه وتأتى به وإما غير ذلك وأعرف فى كل نوع من هذه الأنواع من الأمور المعينة ومن وقعت له ممن أعرفه ما يطول حكايته فإنهم كثيرون جدا .

والمقصود أن محمدا صلى الله عليه وسلم بعث الى الثقلين واستمع الجن لقراءته وولوا  الى قومهم منذرين كما اخبر الله عز وجل وهذا متفق عليه بين المسلمين ثم اكثر المسلمين من الصحابة والتابعين وغيرهم يقولون انهم جاؤوه بعد هذا وانه قرأ عليهم القرآن وبايعوه وسألوه الزاد لهم ولدوابهم فقال لهم لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يعود اوفر ما يكون لحما ولكم كل بعرة علف لدوابكم ، قال النبى صلى الله عليه وسلم فلا تستنجوا بهما فانهما زاد اخوانكم من الجن وهذا ثابت فى صحيح مسلم وغيره من حديث ابن مسعود وقد ثبت فى صحيح البخاري وغيره من حديث أبى هريرة نهيه صلى الله عليه وسلم عن الإستنجاء بالعظم والروث فى أحاديث متعدة وفى صحيح مسلم وغيره عن سلمان قال قيل له قد علمكم نبيكم كل شىء حتى الخراءة قال فقال أجل لقد نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول وان نستنجي باليمين وأن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار وأن نستنجي برجيع أو عظم وفى صحيح مسلم وغيره أيضا عن جابر قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتمسح بعظم أو ببعر وكذلك النهى عن ذلك فى حديث خزيمة بن ثابت وغيره وقد بين علة ذلك فى حديث ابن مسعود ففي صحيح مسلم وغيره عن إبن مسعود أن النبى صلى الله عليه وسلم قال أتانى داعى الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن قال فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم وسألوه الزاد فقال لكم كل عظم ذكر إسم الله عليه يقع في أيديكم لحما وكل بعرة علف لدوابكم فقال النبى صلى الله عليه وسلم فلا تستنجوا بهما فإنهما زاد أخوانكم وفى صحيح البخاري وغيره عن أبى هريرة أنه كان يحمل مع النبى صلى الله عليه وسلم أداوة لوضوئه وحاجته فبينما هو يتبعه بها قال من هذا قلت أبا هريرة قال ابغنى أحجارا أستنفض بها ولا تأتني بعظم ولا بروثة فأتيته بأحجار أحملها فى طرف ثوبى حتى وضعتها الى جنبه ثم إنصرفت حتى إذا فرغ مشيت فقلت ما بال العظم والروثة قال هما من طعام الجن وأنه أتانى وفد جن نصيبين ونعم الجن فسألونى الزاد فدعوت الله لهم أن لا يمروا بعظم ولا روثة الا وجدوا عليها طعاما ولما نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن الإستنجاء بما يفسد طعام الجن وطعام دوابهم كان هذا تنبيها على النهي عما يفسد طعام الإنس وطعام دوابهم بطريق الأولى لكن كراهة هذا والنفور عنه ظاهر فى فطر الناس بخلاف العظم والروثة فإنه لا يعرف نجاسة طعام الجن ، فلهذا جاءت الأحاديث الصحيحة المتعددة بالنهي عنه وقد ثبت بهذه الأحاديث الصحيحة انه خاطب الجن وخاطبوه وقرأ عليهم القرآن وأنهم سألوه الزاد وقد ثبت فى الصحيحين عن ابن عباس أنه كان يقول ان النبى صلى الله عليه وسلم لم ير الجن ولا خاطبهم ولكن أخبره أنهم سمعوا القرآن وابن عباس قد علم ما دل عليه القرآن من ذلك ولم يعلم ما علمه ابن مسعود وأبو هريرة وغيرهما من إتيان الجن اليه ومخاطبته إياهم وأنه أخبره بذلك فى القرآن وأمره أن يخبر به وكان ذلك فى أول الأمر لما حرست السماء وحيل بينهم وبين خبر السماء وملئت حرسا شديدا وكان  فى ذلك من دلائل النبوة ما فيه عبرة كما قد بسط فى موضع آ خر وبعد  هذا أتوه وقرأ عليهم القرآن وروى أنه قرأ عليهم سورة الرحمن وصار كلما قال فبأي آلاء ربكما تكذبان قالوا ولا بشىء من آلائك ربنا نكذب فلك الحمد ، وقد ذكر الله فى القرآن من خطاب الثقلين ما بين هذا الأصل كقوله تعالى يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتى وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وقد أخبر الله عن الجن أنهم قالوا وانا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا أي مذاهب شتى مسلمون وكفار وأهل سنة وأهل بدعة وقالوا وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا والقاسط الجائر يقال قسط إذا جار وأقسط إذا عدل وكافرهم معذب فى الآخرة بإتفاق العلماء وأما مؤمنهم فجمهور العلماء على أنه فى الجنة وقد روى أنهم يكونون فى ربض الجنة تراهم الإنس  من حيث لا يرونهم وهذا القول مأثور عن مالك والشافعى وأحمد وأبى  يوسف ومحمد وقيل إن ثوابهم النجاة من النار وهو مأثور عن أبى حنيفة وقد إحتج الجمهور بقوله لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان قالوا فدل ذلك على تأتى الطمث منهم لأن طمث الحور العين إنما يكون فى الجنة .

 الفصل الثاني
 وإذا كان الجن أحياء عقلاء مأمورين منهيين لهم ثواب وعقاب وقد أرسل اليهم النبى صلى الله عليه وسلم فالواجب على المسلم أن يستعمل فيهم ما يستعمله فى الإنس من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والدعوة الى الله كما شرع الله ورسوله وكما دعاهم النبى صلى الله عليه وسلم ويعاملهم إذا إعتدوا بما يعامل به المعتدون فيدفع صولهم بما يدفع صول الإنس وصرعهم للإنس قد يكون عن شهوة وهوى وعشق كما يتفق للإنس مع الإنس وقد يتناكح الإنس والجن ويولد بينهما ولد وهذا كثير معروف وقد ذكر العلماء ذلك وتكلموا عليه وكره العلماء مناكحة الجن وقد يكون وهو كثير أو الأكثر عن بغض ومجازاة مثل أن يؤذيهم بعض الإنس أو يظنوا أنهم يتعمدو أذاهم إما ببول على بعضهم وإما بصب ماء حار وإما بقتل بعضهم وإن كان الإنسي لا يعرف ذلك وفى الجن جهل وظلم فيعاقبونه بأكثر مما يستحقه وقد يكون عن عبث منهم وشر بمثل سفهاء الإنس وحينئذ فما كان من الباب الأول فهو من  الفواحش التى حرمها الله تعالى كما حرم ذلك على الإنس وإن كان برضىالآخر فكيف إذا كان مع كراهته فإنه فاحشة وظلم فيخاطب الجن بذلك ويعرفون أن هذا فاحشة محرمة أو فاحشة وعدوان لتقوم الحجة عليهم بذلك ويعلموا أنه يحكم فيهم بحكم الله ورسوله الذى أرسله إلى جميع الثقلين الإنس والجن وما كان من القسم الثانى فان كان الإنسي لم يعلم فيخاطبون بأن هذا لم يعلم ومن لم يتعمد الأذى لا يستحق العقوبة وإن  كان قد فعل ذلك فى داره وملكه عرفوا بأن الدار ملكه فله أن يتصرف فيها بما يجوز وأنتم ليس لكم أن تمكثوا فى ملك الإنس بغير أذنهم  بل لكم ما ليس من مساكن الإنس كالخراب والفلوات ولهذا يوجدون كثيرا فى الخراب والفلوات ويوجودون فى مواضع النجاسات كالحمامات والحشوش والمزابل والقمامين والمقابر والشيوخ الذين تقترن بهم الشياطين وتكون أحوالهم شيطانية لا رحمانية يأوون كثيرا الى هذه الأماكن التى هى مأوى الشياطين وقد جاءت الآثار بالنهي عن الصلاة فيها لأنها مأوى الشياطين والفقهاء منهم من علل النهى بكونها مظنة النجاسات ومنهم من قال أنه تعبد لا يعقل معناه والصحيح أن العلة في الحمام وأعطان الإبل ونحو ذلك أنها مأوى الشياطين وفى المقبرة أن ذلك ذريعة إلى الشرك مع أن المقابر تكون أيضا مأوى للشياطين .

والمقصود أن أهل الضلال والبدع الذين فيهم زهد وعبادة على غير الوجه الشرعى ولهم أحيانا  مكاشفات ولهم تأثيرات يأوون كثيرا إلى مواضع الشياطين التى نهى عن الصلاة فيها لأن الشياطين تتنزل عليهم بها وتخاطبهم الشياطين ببعض الأمور كما تخاطب الكهان وكما كانت تدخل فى الأصنام وتكلم عابدي الأصنام وتعينهم فى بعض المطالب كما تعين السحرة وكما تعين عباد الأصنام وعباد الشمس والقمر والكواكب إذا عبدوها بالعبادات التى يظنون أنها تناسبها من تسبيح لها ولباس وبخور وغير ذلك فإنه قد تنزل عليهم شياطين يسمونها روحانية الكواكب وقد تقضي بعض حوائجهم أما قتل بعض أعدائهم أو إمراضه وإما جلب بعض من يهوونه وإما إحضار بعض المال و لكن الضرر الذي يحصل لهم بذلك أعظم من النفع بل قد يكون أضعاف أضعاف  النفع والذين يستخدمون الجن بهذه الأمور يزعم كثير منهم أن سليمان كان يستخدم الجن بها فإنه قد ذكر غير واحد من علماء السلف أن سليمان لما مات كتبت الشياطين كتب سحر وكفر وجعلتها تحت كرسيه وقالوا كان سليمان يستخدم الجن بهذه فطعن طائفة من أهل الكتاب  فى سليمان بهذا وآخرون قالوا لولا أن هذا حق جائز لما فعله سليمان فضل الفريقان هؤلاء بقدحهم فى سليمان وهؤلاء باتباعهم السحر فأنزل الله تعالى في ذلك قوله تعالى ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم الى قوله تعالى ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون بين سبحانه أن هذا لا يضر ولا ينفع إذ كان النفع هو الخير الخالص أو الراجح والضرر هو الشر الخالص أو الراجح وشر هذا إما خالص وإما راجح والمقصود أن الجن إذا إعتدوا على الإنس أخبروا بحكم الله ورسوله وأقيمت عليهم الحجة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر كما يفعل بالإنس لأن الله يقول وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وقال تعالى يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتى وينذرونكم لقاء يومكم هذا ولهذا نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن قتل حيات البيوت حتى تؤذن ثلاثا كما فى صحيح مسلم وغيره عن أبى سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان بالمدينة نفرا من الجن قد أسلموا فمن رأى شيئا من هذه العوامر فليؤذنه ثلاثا فان بدا له بعد فليقتله فإنه شيطان وفى صحيح مسلم أيضا عن أبى السائب مولى هشام  بن زهرة أنه دخل على أبى سعيد الخدري فى بيته قال فوجدته يصلى فجلست أنتظره حتى يقضى صلاته فسمعت تحريكا فى عراجين فى ناحية البيت فالتفت فإذا حية فوثبت لأقتلها فأشار الى أن أجلس فجلست فلما إنصرف أشار الى بيت فى الدار فقال أترى هذا البيت فقلت نعم فقال كان فيه فتى منا حديث عهد بعرس قال فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الى الخندق فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنصاف النهار ويرجع الى أهله فإستأذنه يوما فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خذ عليك سلاحك فإنى أخشى عليك قريظة فأخذ الرجل سلاحه ثم رجع فإذا امرأته بين البابين قائمة فأهوى إليها بالرمح ليطعنها به وأصابته غيرة فقالت أكفف عليك رمحك وإدخل البيت حتى تنظر ما الذى أخرجنى فدخل فإذا بحية عظيمة منطوية على الفراش فأهوى اليها بالرمح فإنتظمها به ثم خرج فركزه فى الدار فاضطربت عليه فما يدرى أيهما كان أسرع موتا الحية أم الفتى قال فجئنا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا له ذلك وقلنا ادع الله يحييه لنا قال إستغفروا لصاحبكم ثم قال إن بالمدينة جنا قد أسلموا فاذا رأيتم منهم شيئا فآذنوه ثلاثة أيام فان بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فانما هو شيطان وفى لفظ آخر لمسلم أيضا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان لهذه البيوت عوامر فإذا رأيتم شيئا منها فحرجوا عليه ثلاثا فان ذهب والا فاقتلوه فانه كافر وقال لهم اذهبوا فادفنوا صاحبكم وذلك ان قتل الجن بغير حق لا يجوز كما لا يجوز قتل الإنس بلا حق والظلم  محرم فى كل حال فلا يحل لأحد أن يظلم أحدا ولو كان كافرا بل قال تعالى ولا يجر منكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى .

والجن يتصورون فى صور الإنس والبهائم فيتصورون فى صور الحيات والعقارب وغيرها وفي صور الإبل والبقر والغنم والخيل والبغال والحمير وفى صور الطير وفى صور بنى آدم كما أتى الشيطان قريشا فى صورة سراقة بن مالك بن جعشم لما أرادوا الخروج إلى بدر قال تعالى وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وانى جار لكم الى قوله والله شديد العقاب وكما روى أنه تصور فى صورة شيخ نجدي لما اجتمعوا بدار الندوة هل يقتلوا الرسول أو يحبسوه أو يخرجوه كما قال تبارك وتعالى: وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين فإذا كان حيات البيوت قد تكون جنا فتؤذن ثلاثا فان ذهبت والا قتلت فانها ان كانت حية قتلت وإن كانت جنية فقد أصرت على العدوان بظهورها للإنس فى صورة حية تفزعهم بذلك والعادي هو الصائل الذي يجوز دفعه بما يدفع ضرره ولو كان قتلا وأما قتلهم بدون سبب يبيح ذلك فلا يجوز وأهل العزائم والأقسام يقسمون على  بعضهم ليعينهم على بعض تارة يبرون قسمه وكثيرا لا يفعلون ذلك بان يكون ذلك الجني معظما عندهم وليس للمعزم وعزيمته من الحرمة ما يقتضى إعانتهم على ذلك إذ كان المعزم قد يكون بمنزلة الذى يحلف غيره ويقسم عليه بمن يعظمه وهذا تختلف أحواله فمن أقسم على الناس ليؤذوا  من هو عظيم عندهم لم يلتفتوا إليه وقد يكون ذاك منيعا فأحوالهم شبيهة بأحوال الإنس لكن الإنس أعقل وأصدق وأعدل وأوفى بالعهد والجن أجهل وأكذب وأظلم وأغدر والمقصود أن أرباب العزائم مع كون عزائمهم تشتمل على شرك وكفر لا تجوز العزيمة والقسم به فهم كثيرا ما يعجزون عن دفع الجني وكثيرا ما تسخر منهم الجن إذا طلبوا منهم قتل الجنى الصارع للأنس أو حبسه فيخيلوا اليهم أنهم قتلوه أو حبسوه ويكون ذلك تخييلا وكذبا هذا إذا كان الذي يرى ما يخيلونه صادقا فى الرؤية فان عامة ما يعرفونه لمن يريدون تعريفه إما بالمكاشفة والمخاطبة أن كان من جنس عباد المشركين وأهل الكتاب ومبتدعة المسلمين الذين تضلهم الجن والشياطين وأما ما يظهرونه لأهل العزائم والأقسام أنهم يمثلون ما يريدون تعريفه فإذا رأى المثال أخبر عن ذلك وقد يعرف أنه مثال وقد يوهمونه أنه نفس المرئى وإذا أرادوا سماع كلام من يناديه من مكان بعيد مثل من يستغيث ببعض العباد الضالين من المشركين وأهل الكتاب وأهل الجهل من عباد المسلمين إذا إستغاث به بعض محببه فقال يا سيدي فلان فان الجني يخاطبه بمثل صوت ذلك الإنسي فإذا رد الشيخ عليه الخطاب أجاب ذلك الإنسي بمثل ذلك الصوت وهذا وقع لعدد كثير أعرف منهم طائفة.

 الفصل الثالث
وكثيرا ما يتصور الشيطان بصورة المدعو المنادى المستغاث به إذا كان ميتا وكذلك قد يكون حيا ولا يشعر بالذى ناداه بل يتصور الشيطان بصورته فيظن المشرك الضال المستغيث بذلك الشخص أن الشخص نفسه أجابه وانما هو الشيطان وهذا يقع للكفار المستغيثين بمن يحسنون به الظن من الأموات والأحياء كالنصارى المستغيثين بجرجس وغيره من قداد بسهم ويقع لأهل الشرك والضلال من المنتسبين الى الإسلام الذين يستغيثون  بالموتى والغائبين يتصور لهم الشيطان فى صورة ذلك المستغاث به وهو لا يشعر واعرف عددا كثيرا وقع لهم فى عدة أشخاص يقول لى كل من الأشخاص انى لم أعرف ان هذا استغاث بى والمستغيث قد رأى ذلك الذى هو على صورة هذا وما اعتقد انه الا هذا وذكر لى غير واحد انهم استغاثوا بى كل يذكر قصة غير قصة صاحبه فاخبرت كلا منهم انى لم أجب أحدا منهم ولا علمت باستغاثته فقيل هذا يكون ملكا فقلت الملك لا يغيث المشرك انما هو شيطان أراد ان يضله وكذلك يتصور بصورته ويقف بعرفات فيظن من يحسن به الظن انه وقف بعرفات وكثير منهم حمله الشيطان الى عرفات او غيرها من الحرم فيتجاوز الميقات بلا احرام ولا تلبية ولا يطوف بالبيت ولا بالصفا والمروة وفيهم من لا يعبر مكة وفيهم من يقف بعرفات ويرجع ولا يرمى الجمار الى أمثال ذلك من الأمور التى يضلهم بها الشيطان حيث فعلوا ما هو منهى عنه فى الشرع اما محرم وأما مكروه ليس بواجب ولا مستحب وقد زين لهم الشيطان أن هذا من كرامات الصالحين وهو من تلبيس الشيطان فان الله لا يعبد إلا بما هو واجب أو مستحب وكل من عبد عبادة ليست واجبة ولا مستحبة وظنها واجبة أو مستحبة فانما زين ذلك له الشيطان وان قدر أنه عفى عنه لحسن قصده واجتهاده لكن ليس هذا مما يكرم الله به أولياءه المتقين إذ ليس فى فعل المحرمات والمكروهات اكرام بل الإكرام حفظه من ذلك ومنعه منه فان ذلك ينقصه لا يزيده وان لم يعاقب عليه بالعذاب فلا بد ان يحفظه عما كان ويخفض اتباعه الذين يمدحون هذه الحال ويعظمون صاحبها فان مدح المحرمات والمكروهات وتعظيم صاحبها هو من الضلال عن سبيل الله وكلما ازداد العبد فى البدع اجتهادا ازداد من الله بعدا لأنها تخرجه عن سبيل الله سبيل الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين الى بعض سبيل المغضوب عليهم والضالين

 الفصل الرابع
إذا عرف الأصل فى هذا الباب فنقول يجوز بل يستحب وقد يجب ان يذب عن المظلوم وأن ينصر فان نصر المظلوم مأمور به بحسب الامكان وفى الصحيحين حديث البرآء بن عازب قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع امرنا بعيادة المريض واتباع الجنازة وتشميت العاطس وابرار القسم أو المقسم  ونصر المظلوم واجابة الداعى وافشاء السلام ونهانا عن خواتيم أو تختم الذهب وعن شرب بالفضة وعن المياثر وعن القسي ولبس الحرير والاستبرق والديباج وفى الصحيح عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم انصر أخاك ظالما أو مظلموما قلت يارسول الله انصره مظلموما فكيف انصره ظالما قال تمنعه من الظلم فذلك نصرك إياه وايضا ففيه تفريج كربة هذا المظلوم وفى صحيح مسلم عن ابى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم انه قال من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر يسر الله عليه فى الدنيا والآخرة ومن ستر مسلما ستره الله فى الدنيا والآخرة والله فى عون العبد ما كان العبد فى عون أخيه وفى صحيح مسلم أيضا عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الرقى قال من استطاع منكم أن ينفع اخاه فليفعل لكن ومثل امر الجنى ونهيه كما يؤمر الانسي وينهى ويجوز من ذلك ما يجوز مثله فى حق الإنسى مثل أن يحتاج الى انتهار الجنى وتهديده ولعنه وسبه كما ثبث فى صحيح مسلم عن ابى الدرداء قال قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعناه يقول اعوذ بالله منك ثم قال ألعنك بلعنة الله ثلاثا وبسط يده  كأنه يتناول شيئا فلما فرغ من الصلاة قلنا يارسول الله قد سمعناك تقول فى الصلاة شيئا لم نسمعك تقوله قبل ذلك ورأيناك بسطت يدك قال ان عدو الله ابليس جاء بشهاب من نار ليجعله فى وجهى فقلت اعوذ بالله منك ثلاث مرات ثم قلت ألعنك بلعنة الله التامة فلم يستأخر ثلاث مرات ثم اردت أخذه ووالله لولا دعوة اخينا سليمان لا صبح موثقا يلعب به ولدان اهل المدينة ففى هذا الحديث الإستعاذة منه ولعنته بلعنة الله ولم يستأخر بذلك فمد يده اليه وفى الصحيحين عن ابى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال ان الشيطان عرض لى فشد على ليقطع الصلاة على فامكننى الله منه فذعته ولقد هممت أن أوثقه الى سارية حتى تصبحوا فتنظروا اليه فذكرت قول اخى سليمان رب اغفر لى وهب لى ملكا لا ينبغى لأحد من بعدى فرده الله خاسئا فهذا الحديث يوافق الأول ويفسره وقوله ذعته أى خنقته فبين أن مد اليد كان لخنقه وهذا دفع لعدوانه بالفعل وهو الخنق وبه اندفع عدوانه فرده الله خاسئا واما الزيادة وهو ربطه الى السارية فهو من باب التصرف الملكى الذى تركه لسليمان فان نبينا صلى الله عليه وسلم كان يتصرف فى الجن كتصرفه فى الانس تصرف عبد رسول يأمرهم بعبادة الله وطاعته لا يتصرف لأمر يرجع اليه وهو التصرف الملكى فانه كان عبدا رسولا وسليمان نبى ملك والعبد الرسول افضل من النبى الملك كما أن السابقين المقربين افضل من عموم الأبرار اصحاب اليمين وقد روى النسائى على شرط البخارى عن عائشة ان النبى صلى الله عليه وسلم كان يصلى فأتاه الشيطان فأخذه فصرعه فخنقه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وجدت برد لسانه على يدى ولولا دعوة سليمان لأصبح موثقا حتى يراه الناس ورواه احمد وابو داود من حديث ابى سعيد وفيه فأهويت بيدى فما زلت اخنقه حتى وجدت برد لعابه بين اصبعى هاتين الابهام والتى يليها وهذا فعله فى الصلاة وهذا مما احتج به العلماء على جواز مثل هذا فى الصلاة وهو كدفع المار وقتل الاسودين والصلاة حال المسايفة وقد تنازع العلماء فى شيطان الجن اذا مر بين يدى المصلي هل يقطع على قولين هما قولان فى مذهب أحمد كما ذكرهما ابن حامد وغيره أحدهما يقطع لهذا الحديث ولقوله لما أخبر ان  مرور الكلب الأسود يقطع للصلاة الكلب الأسود شيطان فعلل بأنه شيطان وهو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فان الكلب الأسود شيطان الكلاب والجن تتصور بصورته كثيرا وكذلك بصورة القط الأسود لأن السواد أجمع للقوى الشيطانية من غيره وفيه قوة الحرارة ومما يتقرب به الى الجن الذبائح فان من الناس من يذبح للجن وهو من الشرك الذى حرمه الله ورسوله وروى أنه نهى عن ذبائح الجن واذا برىء المصاب بالدعاء والذكر وأمر الجن ونهيهم وانتهارهم  وسبهم ولعنهم ونحو ذلك من الكلام حصل المقصود وان كان ذلك يتضمن مرض طائفة من الجن أو موتهم فهم الظالمون لأنفسهم اذا كان الراقى الداعى المعالج لم يتعد عليهم كما يتعدى عليهم كثير من أهل العزائم فيأمرون بقتل من لا يجوز قتله وقد يحبسون من لا يحتاج الى حبسه ولهذا قد تقاتلهم الجن على ذلك ففيهم من تقتله الجن أو تمرضه وفيهم من يفعل ذلك باهله وأولاده أو دوابه وأما من سلك فى دفع عداوتهم مسلك العدل الذى أمر الله به ورسوله فإنه لم يظلمهم بل هو مطيع لله ورسوله فى نصر المظلوم وإغاثه الملهوف والتنفيس عن المكروب بالطريق الشرعى التى ليس فيها شرك بالخالق ولا ظلم للمخلوق ومثل هذا لا تؤذيه الجن أما لمعرفتهم بأنه عادل وإما لعجزهم عنه وإن كان الجن من العفاريت وهو ضعيف فقد تؤذيه فينبغى لمثل هذا أن يحترز بقراءة العوذ مثل آية الكرسى والمعوذات والصلاة والدعاء ونحو ذلك مما  يقوى الإيمان ويجنب الذنوب التى بها يسلطون عليه فانه مجاهد فى سبيل الله وهذا من أعظم الجهاد فليحذر أن ينصر العدو عليه بذنوبه وإن كان الأمر فوق قدرته فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها فلا يتعرض من البلاء لما لا يطيق ومن أعظم ما ينتصر به عل يهم آية الكرسى ، فقد ثبت فى صحيح البخارى حديث أبى هريرة قال وكلنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان فأتانى آت فجعل يحثو من الطعام فأخذته وقلت لأرفعنك الى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنى محتاج وعلى عيال ولي حاجة شديدة قال فحليت عنه فأصبحت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة قلت يارسول الله شكى حاجة شديدة وعيالا فرحمته وخليت سبيله قال إما أنه قد كذبك وسيعود فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فرصدته فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت لأرفعنك الى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال دعنى فإنى محتاج وعلى عيال لا أعود فرحمته فخليت سبيله فأصبحت فقال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا هريرة ما فعل أسيرك قلت يارسول الله شكى حاجة وعيالا فرحمته فخليت سبيله قال اما إنه قد كذبك وسيعود فرصدته الثالثة فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت لأرفعنك الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا آخر ثلاث مرات تزعم أنك لا تعود ثم تعود قال دعنى أعلمك كلمات ينفعك الله بها قلت ما هن قال إذا أويت الى فراشك فإقرأ آية الكرسي الله لا إله إلا هو الحى القيوم حتى تختم الآية فانك لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح فخليت سبيله فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعل أسيرك البارحة قلت يارسول الله زعم أنه يعلمنى كلمات ينفعنى الله بها فخليت سبيله قال ما هى قلت قال لى إذا أويت الى فراشك فإقرأ آية الكرسى من أولها حتى تختم الآية الله لا إله إلا هو الحى القيوم وقال لي لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح وكانوا أحرص شىء على الخير فقال النبى صلى الله عليه وسلم أما أنه قد صدقك وهو كذوب تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة قلت لا قال ذاك شيطان ومع هذا فقد جرب المجربون الذين لا يحصون كثرة أن لها من التأثير فى دفع الشياطين وإبطال أحوالهم مالا ينضبط من كثرته وقوته فان لها تأثيرا عظيما فى دفع الشيطان عن نفس الإنسان وعن المصروع وعن من تعينه الشياطين مثل أهل الظلم والغضب وأهل الشهوة والطرب وأرباب السماع المكاء والتصدية إذا قرئت عليهم بصدق دفعت الشياطين وبطلت الأمور التى يخيلها الشيطان ويبطل ما عند إخوان الشياطين من مكاشفة شيطانية وتصرف شيطاني، إذ كانت الشياطين يوحون الى أوليائهم بأمور يظنها الجهال من كرامات أولياء الله المتقين وإنما هى من تلبيسات الشياطين على أوليائهم المغضوب عليهم والضالين والصائل المعتدى يستحق دفعه سواء كان مسلما أو كافرا وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد ومن قتل دون دينه فهو شهيد فإذا كان المظلوم له أن يدفع عن مال المظلوم ولو بقتل الصائل العادى فكيف لا يدفع عن عقله وبدنه وحرمته فان الشيطان يفسد عقله ويعاقبه فى بدنه وقد يفعل معه فاحشة إنسي بإنسي وان لم يندفع الا بالقتل جاز قتله وأما إسلام صاحبه والتخلى عنه فهو مثل إسلام أمثاله من المظلومين وهذا فرض على الكفاية مع القدرة ففى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يظلمه فإن كان عاجزا عن ذلك أو هو مشغول بما هو أوجب منه أو قام به غيره لم يجب وإن كان قادرا وقد  تعين عليه ولا يشغله عما هو أوجب منه وجب عليه وأما قول السائل هل هذا مشروع فهذا من أفضل الأعمال وهو من أعمال الأنبياء والصالحين فإنه ما زال الأنبياء والصالحون يدفعون الشياطين عن بنى آدم بما أمر الله به ورسوله كما كان المسيح يفعل ذلك وكما كان نبينا صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك فقد روى أحمد فى مسنده وأبو داود فى سننه من حديث مطر بن عبد الرحمن الأعنق قال حدثتنى أم أبان بنت الوازع بن زارع بن عامر العبدي عن أبيها أن جدها الزارع إنطلق الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنطلق معه بإبن له مجنون أو إبن أخت له قال جدي فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت إن معي إبنا لي أو إبن أخت لي مجنون أتيتك به تدعو الله له قال إئتنى به قال فانطلقت به إليه وهو فى الركاب فأطلقت عنه وألقيت عنه ثياب السفر وألبسته ثوبين حسنين وأخذت بيده حتى إنتهيت به الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ادنه منى إجعل ظهره مما يلينى قال بمجامع ثوبه من أعلاه وأسفله فجعل يضرب ظهره حتى رأيت بياض إبطيه ويقول أخرج عدو الله أخرج عدو الله فأقبل ينظر نظر الصحيح ليس بنظره الأول ثم أقعده رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه فدعا له بماء فمسح وجهه ودعا له فلم يكن فى الوفد أحد بعد دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم يفضل عليه وقال أحمد فى المسند ثنا عبد الله بن نمير عن عثمان بن حكيم انا عبد الرحمن بن عبد العزيز عن يعلى بن مرة قال لقد رأيت من  رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا ما رآها أحد قبلي ولا يراها أحد بعدي لقد خرجت معه فى سفر حتى إذا كنا ببعض الطريق مررنا بإمرأة جالسة معها صبى لها فقالت يارسول الله هذا صبى أصابه بلاء وأصابنا منه بلاء يؤخذ فى اليوم ما أدرى كم مرة قال ناولينيه فرفعته إليه فجعله بينه وبين واسطة الرحل ثم فغر فاه فنفث فيه ثلاثا وقال بسم الله أنا عبد الله اخسأ عدو الله ثم ناولها إياه فقال إلقينا فى الرجعة فى هذا المكان فأخبرينا ما فعل قال فذهبنا ورجعنا فوجدناها فى ذلك المكان معها شياه ثلاث فقال ما فعل صبيك فقالت والذي بعثك بالحق ما حسسنا منه شيئا حتى الساعة فإجترر هذه الغنم قال أنزل خذ منها واحدة ورد البقية وذكر الحديث بتمامه ثنا وكيع قال ثنا الأعمش عن المنهال بن عمرو عن يعلى بن مرة عن أبيه قال وكيع مرة يعنى الثقفي ولم يقل مرة عن أبيه أن إمرأة جاءت الى النبى صلى الله عليه وسلم معها صبى لها به لمم فقال النبى صلى الله عليه وسلم اخرج عدو الله أنا رسول الله قال فبرأ قال فاهدت إليه كبشين وشيئا من أقط وشيئا من سمن قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خذ الأقط والسمن وخذ أحد الكبشين ورد عليها الآخر ثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن عطاء بن السائب عن عبد الله إبن حفص عن يعلى بن مرة الثقفي قال ثلاثة أشياء رأيتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث وفيه قال ثم سرنا فمررنا بماء فأتته إمرأة بإبن لها به جنة فأخذ النبى صلى الله عليه وسلم بمنخره فقال اخرج انى محمد رسول الله قال ثم سرنا فلما رجعنا من سفرنا مررنا بذلك الماء فأتته المرأة بجزر ولبن فأمرها أن ترد الجزر وأمر أصحابه فشربوا من اللبن فسألها عن الصبى فقالت والذي بعثك بالحق ما رأينا منه ريبا بعدك ولو قدر أنه لم ينقل ذلك لكون مثله لم يقع عند الأنبياء لكون الشياطين لم تكن تقدر تفعل ذلك عند الأنبياء وفعلت ذلك عندنا فقد أمرنا الله ورسوله من نصر المظلوم والتنفيس عن المكروب ونفع المسلم بما يتناول ذلك وقد ثبت فى الصحيحين حديث الذين رقوا بالفاتحة وقال النبى صلى الله عليه وسلم وما أدراك إنها رقية وأذن لهم فى أخذ الجعل على شفاء اللديغ بالرقية وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم للشيطان الذى أراد قطع صلاته اعوذ بالله منك ألعنك بلعنة الله التامة ثلاث مرات وهذا كدفع ظالمي الإنس من الكفار والفجار فإن النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه وإن كانوا لم يروا الترك ولم يكونوا يرمون بالقسى الفارسية ونحوها مما يحتاج إليه فى قتال فقد ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه أمر بقتالهم وأخبر أن أمته ستقاتلهم ومعلوم أن قتالهم النافع إنما هو بالقسى الفارسية ولو قوتلوا بالقسى العربية التى تشبه قوس القطن لم تغن شيئا بل إستطالوا على المسلمين بقوة رميهم فلابد من قتالهم بما يقهرهم وقد قال بعض المسلمين لعمر بن الخطاب أن العدو إذا رأيناهم قد لبسوا الحرير وجدنا فى قلوبنا روعة فقال أنتم فالبسوا كما لبسوا وقد أمر النبى صلى الله عليه وسلم أصحابه فى عمرة القضية بالرمل والإضطباع ليرى المشركين قوتهم وان لم يكن هذا مشروعا قبل هذا ففعل لأجل الجهاد ما لم يكن مشروعا بدون ذلك ولهذا قد يحتاج فى إبراء المصروع ودفع الجن عنه الى الضرب فيضرب ضربا كثيرا جدا والضرب إنما يقع على الجنى ولا يحس به المصروع حتى يفيق االمصروع ويخبر أنه لم يحس بشىء من ذلك ولا يؤثر فى بدنه ويكون قد ضرب بعصا قوية على رجليه نحو ثلاثمائة أو أربعمائة ضربة وأكثر وأقل بحيث لو كان على الإنسى لقتله وإنما هو على الجنى والجنى يصيح ويصرخ ويحدث الحاضرين بأمور متعددة كما قد فعلنا نحن هذا وجربناه مرات كثيرة يطول وصفها بحضرة خلق كثيرين .

وأما الإستعانة عليهم بما يقال ويكتب مما لا يعرف معناه فلا يشرع لا سيما إن كان فيه شرك فإن ذلك محرم وعامة ما يقوله أهل العزائم فيه شرك وقد يقرأون مع ذلك شيئا من القرآن ويظهرونه ويكتمون ما يقولونه من الشرك ، وفى الإستشفاء بما شرعه الله ورسوله ما يغني عن الشرك  وأهله والمسلمون وإن تنازعوا فى جواز التداوي بالمحرمات كالميتة والخنزير فلا يتنازعون فى أن الكفر والشرك لا يجوز التداوي به بحال لأن ذلك محرم فى كل حال وليس هذا كالتكلم به عند الإكراه فإن ذلك إنما يجوز إذا كان قلبه مطمئنا بالإيمان والتكلم به إنما يؤثر إذا كان بقلب صاحبه ولو تكلم به مع طمأنينة قلبه بالإيمان لم يؤثر والشيطان إذا عرف أن صاحبه مستخف بالعزائم لم يساعده وأيضا فإن المكره مضطر الى التكلم به ولا ضرورة الى إبراء المصاب به لوجهين أحدهما أنه قد لا يؤثر أكثر مما يؤثر من يعالج بالعزائم فلا يؤثر بل يزيده شرا والثانى أن فى الحق ما يغنى عن الباطل والناس فى هذا الباب ثلاثة أصناف قوم يكذبون بدخول الجنى فى الإنس وقوم  يدفعون ذلك بالعزائم المذمومة فهؤلاء يكذبون بالموجود وهؤلاء يعصون بل يكفرون بالمعبود والأمة الوسط تصدق بالحق الموجود وتؤمن بالإله الواحد المعبود وبعبادته ودعائه وذكره واسمائه وكلامه فتدفع شياطين الإنس والجن وأما سؤال الجن وسؤال من يسألهم فهذا إن كان على وجه التصديق لهم فى كل ما يخبرون به والتعظيم للمسئول فهو حرام كما ثبت فى صحيح مسلم وغيره عن معاوية بن الحكم السلمي قال قلت يا رسول الله أمورا كنا نصنعها فى الجاهلية كنا نأتى الكهان قال فلا تأتوا الكهان وفى صحيح مسلم أيضا عن عبيد الله عن نافع عن صفية عن بعض أزواج النبى صلى الله عليه وسلم عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: من أتى عرافا فسأله عن شىء لم تقبل له صلاة أربعين يوما وأما إن كان يسأل المسئول ليمتحن حاله ويختبر باطن أمره وعنده ما يميز به صدقه من كذبه فهذا جائز كما ثبت فى الصحيحين أن النبى صلى الله عليه وسلم سأل إبن صياد فقال ما يأتيك فقال يأتينى صادق وكاذب قال ما ترى قال أرى عرشا على الماء قال فإنى قد خبأت لك خبيئا قال الدخ الدخ قال اخسأ فلن تعدوا قدرك فإنما أنت من إخوان الكهان وكذلك إذا كان يسمع ما يقولونه ويخبرون به عن الجن كما يسمع المسلمون ما يقول الكفار والفجار ليعرفوا ما عندهم فيعتبروا به وكما يسمع خبر الفاسق ويتبين ويتثبت فلا  يجزم بصدقه ولا كذبه إلا ببينة كما قال تعالى إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا وقد ثبت فى صحيح البخارى عن أبى هريرة أن أهل الكتاب كانوا يقرأون التوارة ويفسرونها بالعربية فقال النبى صلى الله عليه وسلم إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم فأما أن يحدثوكم بحق فتكذبوه وإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوه وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون فقد جاز للمسلمين سماع ما يقولونه ولم يصدقوه ولم يكذبوه وقد روى عن أبى موسى الأشعرى أنه أبطأ عليه خبر عمر وكان هناك إمرأة لها قرين من الجن فسأله عنه فأخبره أنه ترك عمر يسم إبل الصدقة وفي خبر آخر أن عمر أرسل جيشا فقدم شخص إلى المدينة فأخبر أنهم إنتصروا على عدوهم وشاع الخبر فسأل عمر عن ذلك فذكر له فقال هذا أبو الهيثم بريد المسلمين من الجن وسيأتى بريد الإنس بعد ذلك فجاء بعد ذلك بعدة أيام .

الفصل الخامس
 ويجوز أن يكتب للمصاب وغيره من المرضى شيئا من كتاب الله وذكره بالمداد المباح ويغسل ويسقى كما نص على ذلك أحمد وغيره قال عبد الله بن أحمد قرأت على أبى ثنا يعلى بن عبيد ثنا سفيان عن محمد إبن  أبى ليلى عن الحكم عن سعيد بن جبير عن إبن عباس قال إذا عسر على  المرأة ولادتها فليكتب بسم الله لا إله إلا الله الحليم الكريم سبحان الله رب العرش العظيم الحمد لله رب العالمين كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشيه أو ضحاها كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون قال أبى ثنا أسود بن عامر بإسناده بمعناه وقال يكتب فى إناء نظيف فيسقى قال أبى وزاد فيه وكيع فتسقى وينضح ما دون سرتها قال عبدالله رأيت أبى يكتب للمرأة فى جام أو شيء نظيف وقال أبو عمرو محمد بن أحمد بن حمدان الحيرى أنا الحسن بن سفيان النسوي حدثنى عبد الله بن أحمد بن شبويه ثنا علي بن الحسن بن شقيق ثنا عبد الله بن المبارك عن سفيان عن إبن أبى ليلى عن الحكم عن سعيد بن جبير عن إبن عباس قال إذا عسر على المرأة ولادها فليكتب بسم الله لا إله إلا الله العلى العظيم لا إله إلا الله الحليم الكريم سبحان الله وتعالى رب العرش العظيم والحمد لله رب العالمين كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشيه أو ضحاها كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعه من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون قال علي يكتب فى كاغدة فيعلق علىعضد المرأة قال علي وقد جربناه فلم نر  شيئا أعجب منه فإذا وضعت تحله سريعا ثم تجعله فى خرقه أو تحرقه.

آخر كلام شيــخ الإسلام

  • Digg
  • Del.icio.us
  • StumbleUpon
  • Reddit
  • RSS