يتم التشغيل بواسطة Blogger.
RSS

مقتطفات من كتاب العلامة ابن القيم اغاثة اللهفان من مصائد الشيطان

 

فصل في كيده للإنسان بالوسوسة

ومن كيده الذي بلغ الجهال ما بلغ : الوسواس الذي كادهم به في أمر الطهارة والصلاة عند عقد النية، حتى ألقاهم في الآصار والأغلال ، وأخرجهم عن اتباع سنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وخيل إلى أحدهم أن ما جاءت به السنة لا يكفي حتى يضم إليه غيره ، فجمع لهم بين هذا الظن الفاسد، والتعب الحاضر، وبطلان الأجر أو تنقيصه .

ولا ريب أن الشيطان هو الداعي إلى الوسواس : فأهله قد أطاعوا الشيطان ، ولبوا دعوته ، واتبعوا أمره ، ورغبوا عن اتباع سنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وطريقته ، حتى أن أحدهم ليرى أنه إذا توضأ وضوء رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، أو اغتسل كاغتساله ، لم يطهر ولم يرتفع حدثه . ولولا العذر بالجهل لكان هذا مشاقة للرسول ، فقد كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يتوضأ بالمد ، وهو قريب من ثلث رطل بالدمشقي ، ويغتسل بالصاع وهو نحو رطل وثلث ، والموسوس يرى أن ذلك القدر لا يكفيه لغسل يديه ، وصح عنه عليه السلام أنه توضأ مرة مرة ، ولم يزد على ثلاث ، بل أخبر أن : " من زاد عليها فقد أساء وتعدى وظلم " فالموسوس مسيء متعد ظالم بشهادة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، فكيف يتقرب إلى الله بما هو مسيء به متعد فيه لحدوده ؟ .

" وصح عنه أنه كان يغتسل هو وعائشة رضي الله عنها من قصعة بينهما فيها أثر العجين " ، ولو رأى الموسوس من يفعل هذا لأنكر عليه غاية الإنكار، وقال : ما يكفي هذا القدر لغسل اثنين ؟ كيف والعجين يحلله الماء فيغيره ؟ هذا والرشاش ينزل في الماء فينجسه عند بعضهم ، ويفسده عند آخرين ، فلا تصح به الطهارة ، وكان صلى الله تعالى عليه وسلم يفعل ذلك مع غير عائشة ، مثل ميمونة وأم سلمة، وهذا كله في الصحيح .

وثبت أيضا في الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال :  كان الرجال والنساء على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يتوضئون من إناء واحد  والآنية التي كان عليه السلام وأزواجه وأصحابه ونساؤهم يغتسلون منها لم تكن من كبار الآنية ولا كانت لها مادة تمدها، كأنبوب الحمام ونحوه ، ولم يكونوا يراعون فيضانها حتى يجري الماء من حافاتها ، كما يراعيه جهال الناس ممن بلي بالوسواس في جرن الحمام .

فهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي من رغب عنه فقد رغب عن سنته ، جواز الاغتسال من الحياض والآنية ، وإن كانت ناقصة غير فائضة، ومن انتظر الحوض حتى يفيض ثم استعمله وحده ولم يمكن أحدا أن يشاركه في استعماله فهو مبتدع مخالف للشريعة .

قال شيخنا : ويستحق التعزير البليغ الذي يزجره وأمثاله عن أن يشرعوا في الدين ما لم يأذن به الله ، ويعبدوا الله بالبدع بالاتباع .

ودلت هذه السنن الصحيحة على أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه لم يكونوا يكثرون صب الماء، ومضى على هذا التابعون لهم بإحسان .
قال سعيد بن المسيب :  إني لأستنجي من كوز الحب وأتوضأ وأفضل منه لأهلي  .
وقال الإمام أحمد :  من فقه الرجل قلة ولوعه بالماء  .
وقال المروزي :  وضأت أبا عبد الله بالعسكر، فسترته من الناس لئلا يقولوا إنه لا يحسن الوضوء لقلة صبه الماء .
وكان أحمد يتوضأ فلا يكاد يبل الثرى .
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح : " أنه توضأ من إناء فأدخل يده فيه ثم تمضمض واستنشق " وكذلك كان في غسله يدخل يده في الإناء ، يتناول الماء منه، والموسوس لا يجوز ذلك ، ولعله أن يحكم بنجاسة الماء ويسلبه طهوريته بذلك .

وبالجملة فلا تطاوعه نفسه لاتباع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وأن يأتي بمثل ما أتى بل أبدا، وكيف يطاوع الموسوس نفسه أن يغتسل هو وامرأته من إناء واحد قدر الفرق قريبا من خمسة أرطال بالدمشقي ، يغمسان أيديهما فيه ، ويفرغان عليهما ؟ فالموسوس يشمئز من ذلك كما يشمئز المشرك إذا ذكر الله وحده .

قال أصحاب الوسواس : إنما حملنا على ذلك الاحتياط لديننا ، والعمل بقوله صلى الله تعالى عليه وسلم : " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " وقوله : " من اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه " وقوله : " الإثم ما حاك في الصدر " .

وقال بعض السلف : الإثم حور القلوب، وقد وجد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم تمرة فقال : " لولا أني أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها " أفلا يرى أنه ترك أكلها احتياطا ؟ .
وقد أفتى مالك رحمه الله فيمن طلق امرأته وشك : هل هي واحدة أم ثلاث : بأنها ثلاث ، احتياطا للفروج .
وأفتى من حلف بالطلاق : إن في هذه اللوزة حبتين، وهو لا يعلم ذلك ، فبان الأمر كما حلف عليه : أنه حانث ، لأنه حلف على مالا يعلم .
وقال فيمن طلق واحدة من نسائه ثم أنسيها : يطلق عليه جميع نسائه احتياطا ، وقطعا للشك .
وقال أصحاب مالك فيمن حلف بيمين ثم نسيها : أنه يلزمه جميع ما يحلف به عادة ، فيلزمه الطلاق، والعتاق، والصدقة بثلث المال، وكفارة الظهار، وكفارة اليمين بالله تعالى ، والحج ماشيا ، ويقع الطلاق في جميع نسائه ، ويعتق عليه جميع عبيده وإمائه . وهذا أحد القولين عندهم .
ومذهب مالك أيضا : أنه إذا حلف ليفعلن كذا : أنه على حنث حتى يفعله، فيحال بينه وبين امرأته .
ومذهبه أيضا : أنه إذا قال إذا جاء رأس الحول فأنت طالق ثلاثا : أنها تطلق في الحال . وهذا كله احتياط .
وقال الفقهاء : من خفي عليه موضع النجاسة من الثوب وجب عليه غسله كله .
وقالوا : إذا كان معه ثياب طاهرة وتنجس منها ثياب، وشك فيها ، صلى في ثوب بعد ثوب ، بعدد النجس ، وزاد صلاة لتيقن براءة ذمته .
وقالوا : إذا اشتبهت الأواني الطاهرة بالنجسة أراق الجميع وتيمم، وكذلك إذا اشتبهت عليه القبلة ، فلا يدري في أي جهة ، فإنه يصلي أربع صلوات عند بعض الأئمة ، لتبرأ ذمته بيقين .
وقالوا : من ترك صلاة من يوم ثم نسيها وجب عليه أن يصلي خمس صلوات .
وقد أمر النبي عليه الصلاة والسلام من شك في صلاته أن يبني على اليقين .
وحرم أكل الصيد إذا شك صاحبه هل مات بسهمه أو بغيره ، كما إذا وقع في الماء .
وحرم أكله إذا خالط كلبه كلبا آخر، للشك في تسمية صاحبه عليه . وهذا باب يطول تتبعه .
فالاحتياط والأخذ باليقين غير مستنكر في الشرع ، وإن سميتموه وسواسا .
وقد كان عبدالله بن عمر يغسل داخل عينيه في الطهارة، حتى عمي .
وكان أبو هريرة إذا توضأ أشرع في العضد ، وإذا غسل رجليه أشرع في الساقين .
فنحن إذا احتطنا لأنفسنا وأخذنا باليقين وتركنا ما يريب إلى مالا بريب ، وتركنا المشكوك فيه للمتيقن المعلوم ، وتجنبنا محل الاشتباه ، لم نكن بذلك عن الشريعة خارجين ، ولا في البدعة والجين ، وهل هذا إلا خير من التسهيل والاسترسال ؟ حتى لا يبالي العبد بدينه، ولا يحتاط له ، بل يسهل الأشياء ويمشي حالها ، ولا يبالي كيف توضأ ؟ ولا بأي ماء توضأ ؟ ولا بأي مكان صلى ؟ ولا يبالي ما أصاب ذيله وثوبه ، ولا يسأل عما عهد بل يتغافل ، ويحسن ظنه ، فهو مهمل لدينه لا يبالي ما شك فيه . ويحمل الأمور على الطهارة ، وربما كانت أفحش النجاسة، ويدخل بالشك ويخرج بالشك . فأين هذا ممن استقصى في فعل ما أمر به ، واجتهد فيه ، حتى لا يخل بشيء منه ، وإن زاد على المأمور فإنما قصده بالزيادة تكميل المأمور ، وأن لا ينقص منه شيئا ؟ .

قالوا : وجماع ما ينكرونه علينا احتياط في فعل مأمور، أو احتياط في اجتناب محظور . وذلك خير وأحسن عاقبة من التهاون بهذين، فإنه يفضي غالبا إلى النقص من الواجب، والدخول في المحرم ، وإذا وازنا بين هذه المفسدة ومفسدة الوسواس كانت مفسدة الوسواس أخف، هذا إن ساعدناكم على تسميته وسواسا ، وإنما نسميه احتياطا واستظهارا ، فلستم بأسعد منا بالسنة ، ونحن حولها ندندن ، وتكميلها نريد .

وقال أهل الاقتصاد والاتباع : قال الله تعالى : " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر" ، وقال تعالى : " قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله " ، وقال تعالى : " واتبعوه لعلكم تهتدون " ، وقال تعالى : " وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون " .

وهذا الصراط المستقيم الذي وصانا باتباعه هو الصراط الذي كان عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وأصحابه ، وهو قصد السبيل ، وما خرج عنه فهو من السبل الجائرة ، وإن قاله من قاله ، لكن الجور قد يكون جورا عظيما عن الصراط ، وقد يكون يسيرا ، وبين ذلك مراتب لا يحصيها إلا الله وهذا كالطريق الحسي ، فإن السالك قد يعدل عنه ويجور جورا فاحشا ، وقد يجور دون ذلك ، فالميزان الذي يعرف به الاستقامة على الطريق والجور عنه هو ما كان رسول الله وأصحابه عليه، والجائر عنه إما مفرط ظالم ، أو مجتهد متأول ، أو مقلد جاهل . فمنهم المستحق للعقوبة، ومنهم المغفور له ، ومنهم المأجور أجرا واحدا ، بحسب نياتهم ومقاصدهم واجتهادهم في طاعة الله تعالى ورسوله ، أو تفريطهم .
ونحن نسوق من هدى رسول الله وهدى أصحابه ما يبين أي الفريقين أولى باتباعه ، ثم نجيب عما احتجوا به بعون الله وتوفيقه .
ونقدم قبل ذلك ذكر النهي عن الغلو ، وتعدي الحدود، والإسراف وإن الاقتصاد والاعتصام بالسنة عليهما مدار الدين .
قال الله تعالى : " يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم " وقال تعالى : " ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين " وقال تعالى : " تلك حدود الله فلا تعتدوها " وقال تعالى : " ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين " وقال تعالى : " ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين " .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم - غداة العقبة وهو على ناقته :- " القط لي حصا . فلقطت له سبع حصيات من حصا الخذف ، فجعل ينفضهن في كفة ويقول : أمثال هؤلاء فارموا ، ثم قال : أيها الناس . إياكم والغلو في الدين . فإنما أهلك الذين من قبلكم الغلو في الدين " رواه الإمام أحمد والنسائي .
وقال أنس رضي الله عنه : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : " لاتشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم . فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم ، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات: رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم " .
فنهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن التشديد في الدين ، وذلك بالزيادة على المشروع وأخبر، أن تشديد العبد على نفسه هو السبب لتشديد الله عليه، إما بالقدر، وإما بالشرع .
فالتشديد بالشرع : كما يشدد على نفسه بالنذر الثقيل ، فيلزمه الوفاء به ، وبالقدر كفعل أهل الوسواس . فإنهم شددوا على أنفسهم فشدد عليهم القدر ، حتى استحكم ذلك وصار صفة لازمة لهم .
قال البخاري :  وكره أهل العلم الإسراف فيه - يعني الوضوء - وأن يجاوزوا فعل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، وقال ابن عمر رضي الله عنهما :  إسباغ الوضوء : الإتقاء  .
فالفقه كل الفقه الاقتصاد في الدين ، والاعتصام بالسنة .
قال أبي بن كعب :  عليكم بالسبيل والسنة ، فإنه ما من عبد على السبيل والسنة ذكر الله عز وجل فاقشعر جلده من خشية الله تعالى إلا تحاتت عنه خطاياه كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها ، وإن اقتصادا في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة، فاحرصوا إذا كانت أعمالكم اقتصادا أن تكون على منهاج الأنبياء وسنتهم  .
قال الشيخ أبو محمد المقدسي في كتابه ذم الوسواس :
الحمد لله الذي هدانا بنعمته ، وشرفنا بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم برسالته ، ووفقنا للاقتداء به والتمسك بسنته، ومن علينا باتباعه الذي جعله علما على محبته ومغفرته ، وسببا لكتابة رحمته وحصول هدايته ، فقال سبحانه : " قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم " ، وقال تعالى : " ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون * الذين يتبعون الرسول النبي الأمي " ثم قال : "فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون " .
أما بعد : فإن الله سبحانه جعل الشيطان عدوا للإنسان، يقعد له الصراط المستقيم ، ويأتيه من كل جهة وسبيل ، كما أخبر الله تعالى عنه أنه قال : " لأقعدن لهم صراطك المستقيم * ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين " ، وحذرنا الله عز وجل من متابعته ، وأمرنا بمعاداته ومخالفته ، فقال سبحانه : " إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا " ، وقال : " يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة " ، وأخبرنا بما صنع بأبوينا تحذيرا لنا من طاعته ، وقطعا للعذر في متابعته ، وأمرنا الله سبحانه وتعالى بإتباع صراطه المستقيم ونهانا عن إتباع السبل ، فقال سبحانه : " وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله " ، وسبيل الله وصراطه المستقيم : هو الذي كان عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وصحابته ، بدليل قوله عز وجل : " يس * والقرآن الحكيم * إنك لمن المرسلين * على صراط مستقيم " ، وقال : " إنك لعلى هدى مستقيم " وقال : " وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم " فمن اتبع رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في قوله وفعله فهو على صراط الله المستقيم ، وهو ممن يحبه الله ويغفر له ذنوبه ، ومن خالفه في قوله أو فعله فهو مبتدع ، متبع لسبيل الشيطان غير داخل فبمن وعد الله بالجنة والمغفرة والإحسان .

فصل في ذم الموسوسين

ثم إن طائفة الموسوسين قد تحقق منهم طاعة الشيطان ، حتى اتصفوا بوسوسته ، وقبلوا قوله ، وأطاعوه ، ورغبوا عن اتباع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وصحابته ، حق أن أحدهم ليرى أنه إذا توضأ وضوء رسول الله عليه الصلاة والسلام ، أو صلى كصلاته ، فوضوءه باطل ، وصلاته غير صحيحة . ويرى أنه إذا فعل مثل فعل رسول الله عليه الصلاة والسلام في مواكلة الصبيان، وأكل طعام عامة المسلمين ، أنه قد صار نجسا ، يجب عليه تسبيع يده وفمه ، كما لو ولغ فيهما كلب أو بال عليهما هر .
ثم إنه بلغ من استيلاء إبليس عليهم أنهم أجابوه إلى ما يشبه الجنون، ويقارب مذهب السوفسطائية الذين ينكرون حقائق الموجودات، والأمور المحسوسات ، وعلم الإنسان بحال نفسه من الأمور الضروريات اليقينيات ، وهؤلاء يغسل أحدهم عضوه غسلا يشاهده ببصره ويكبر، ويقرأ بلسانه ، بحيث تسمعه أذناه ، ويعلمه بقلبه ، بل يعلمه غيره منه ويتيقنه ، ثم يشك : هل فعل ذلك أم لا ؟ وكذلك يشككه الشيطان في نيته وقصده التي يعلمها من نفسه يقينا ، بل يعلمها غيره منه بقرائن أحواله . ومع هذا يقبل قول إبليس في أنه مانوى الصلاة ، ولا أرادها ، مكابرة منه لعيانه ، وجحدا ليقين نفسه ، حتى تراه متلددا متحيرا : كأنه يعالج شيئا يجتذبه ، أو يجد شيئا في باطنه يستخرجه . كل ذلك مبالغة في طاعة إبليس، وقبول وسوسته ، ومن انتهت طاعته لإبليس إلى هذا الحد فقد بلغ النهاية في طاعته .
ثم إنه يقبل قوله في تعذيب نفسه ويطيعه في الإضرار بجسده، تارة بالغوص في الماء البارد ، وتارة بكثرة استعماله وإطالة العرك ، وربما فتح عينيه في الماء البارد ، وغسل داخلهما حتى يضر ببصره، وربما أفضى إلى كشف عورته للناس ، وربما صار إلى حال يسخر منه الصبيان ويستهزىء به من يراه .
قلت : ذكر أبو الفرج ابن الجوزي عن أبي الوفاء ابن عقيل : أن رجلا قال له : أنغمس في الماء مرارا كثيرة وأشك : هل صح [لي] الغسل أم لا ، فما ترى في ذلك ؟ فقال له الشيخ : اذهب ، فقد سقطت عنك الصلاة . قال : وكيف ؟ قال : لأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : " رفع القلم عن ثلاثة : المجنون حتى يفيق ، والنائم حتى يستيقظ ، والصبي حتى يبلغ " ومن ينغمس في الماء مرارا ويشك هل أصابه الماء أم لا ، فهو مجنون .
قال : وربما شغله بوسواسه حتى تفوته الجماعة، وربما فاته الوقت ويشغله بوسوسته في النية حق تفوته التكبيرة الأولى، وربما فوت عليه ركعة أوأكثر، ومنهم من يحلف أنه لا يزيد على هذا ، ثم يكذب .
قلت : وحكى لي من أثق به عن موسوس عظيم رأيته أنا يكرر عقد النية مرارا عديدة فيشق على المأمومين مشقة كبيرة ، فعرض له أن حلف بالطلاق أنه لا يزيد على تلك المرة ، فلم يدعه إبليس حتى زاد ، ففرق بينه وبين امرأته ، فأصابه لذلك غم شديد ، وأقاما متفرقين دهرا طويلا ، حتى تزوجت ، تلك المرأة برجل آخر، وجاءه منها ولد ، ثم إنه حنث في يمين حلفها ففرقا بينهما وردت إلى الأول بعد أن كاد يتلف لمفارقتها .
وبلغني عن آخر أنه كان شديد التنطع في التلفظ بالنية والتقعر في ذلك ، فاشتد به التنطع والتقعر يوما إلى أن قال : أصلي، أصلي ، مرارا ، صلاة كذا وكذا . وأراد أن يقول : أداء ، فأعجم  الدال ، وقال : أذاء لله . فقطع الصلاة رجل إلى جانبه ، يقال : ولرسوله وملائكته وجماعه المصلين .
قال : ومنهم من يتوسوس في إخراج الحرف حتى يكرره مرارا .
قال : فرأيت منهم من يقول : الله أكككبر . قال : وقال لي إنسان منهم : قد عجزت عن قول :  السلام عليكم  فقلت له : قل مثل ما قد قلت الآن ، وقد استرحت .
وقد بلغ الشيطان منهم أن عذبهم في الدنيا قبل الآخرة ، وأخرجهم عن اتباع الرسول ، وأدخلهم في جملة أهل التنطع والغلو ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا .
فمن أراد التخلص من هذه البلية فليستشعر أن الحق في اتباع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في قوله وفعله ، وليعزم على سلوك طريقته عزيمة من لا يشك أنه على الصراط المستقيم ، وأن ما خالفه من تسويل إبليس ووسوسته ، ويوقن أنه عدو له لا يدعوه إلى خير " إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير" وليترك التعرج على كل ما خالف طريقة رسول الله عليه الصلاة والسلام كائنا ما كان ، فإنه لا يشك أن رسول الله عليه الصلاة والسلام كان على الصراط المستقيم ، ومن شك في هذا فليس بمسلم . ومن علمه فإلى أين العدول عن سنته ؟ وأي شيء يبتغي العبد غير طريفته ؟ ويقول لنفسه : ألست تعلمين أن طريقة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هي الصراط المستقيم ؟ فإذا قالت له : بلى ، قال لها : فهل كان يفعل هذا ؟ فستقول : لا ، فقل لها : فماذا بعد الحق إلا الضلال ؟ وهل بعد طريق الجنة إلا طريق النار ؟ وهل بعد سبيل الله وسبيل رسوله إلا سبيل الشيطان ؟ فإن اتبعت سبيله كنت قرينه، وستقولين : " يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين " . ولينظر أحوال السلف في متابعتهم لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فليقتد بهم، وليختر طريقهم فقد روينا عن بعضهم أنه قال : " لقد تقدمني قوم لو لم يجاوزوا بالوضوء الظفر ما تجاوزته " .
قلت : هو إبراهيم النخعي .
وقال زين العابدين يوما لابنه :  يا بني ، اتخذ لي ثوبا ألبسه عند قضاء الحاجة ، فإني رأيت الذباب يسقط على الشيء ثم يقع على الثوب، ثم انتبه فقال : ما كان للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه إلا ثوب واحد ، فتركه  .
وكان عمر رضي الله تعالى عنه يهم بالأمر ويعزم عليه، فإذا قيل له : لم يفعله رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم انتهى، حتى أنه قال :  لقد هممت أن أنهي عن لبس هذه الثياب ، فإنه قد بلغني أنها تصبغ ببول العجائز. فقال له أبي : ما لك أن تنهي ، فإن رسول الله عليه الصلاة والسلام قد لبسها ولبست في زمانه ، ولو علم الله أن لبسها حرام لبينه لرسوله صلى الله تعالى عليه وسلم . فقال عمر: صدقت  .
ثم ليعلم أن الصحابة ما كان فيهم موسوس، ولو كانت الوسوسة فضيلة لما ادخرها الله عن رسوله وصحابته ، وهم خير الخلق وأفضلهم ، ولو أدرك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الموسوسين لمقتهم ، ولو أدركهم عمر رضي الله تعالى عنه لضربهم وأدبهم ، ولو أدركهم الصحابة لبدعوهم ، وها أنا أذكر ما جاء في خلاف مذهبهم على ما يسره الله تعالى مفصلا .

في النية في الطهارة والصلاة
النية هي القصد والعزم على فعل الشيء، ومحلها القلب ، لا تعلق لها باللسان أصلا ، ولذلك لم ينقل عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولا عن أصحابه في النية لفظ بحال ، ولا سمعنا عنهم ذكر ذلك . وهذه العبارات التي أحدثت عند افتتاح الطهارة والصلاة قد جعلها الشيطان معتركا لأهل الوسواس ، يحبسهم عندها . ويعذبهم فيها ، ويوقعهم في طلب تصحيحها فترى أحدهم يكررها ويجهد نفسه في التلفظ بها، وليست من الصلاة في شيء ، وإنما النية قصد فعل الشيء ، فكل عازم على فعل فهو ناويه ، لا يتصور انفكاك ذلك عن النية فإنه حقيقتها، فلا يمكن عدمها في حال وجودها . ومن قعد ليتوضأ فقد نوى الوضوء ، ومن قام ليصلي فقد نوى الصلاة ، ولا يكاد العاقل يفعل شيئا من العبادات ولا غيرها بغير نية، فالنية لازم لأفعال الإنسان المقصودة ، لا يحتاج إلى تعب ولا تحصيل . ولو أراد إخلاء أفعاله الاختيارية عن نية لعجز عن ذلك . ولو كلفه الله عز وجل الصلاة والوضوء بغير نية لكلفه مالا يطيق، ولا يدخل تحت وسعه . وما كان هكذا فما وجه التعب في تحصيله ؟ وإن شك في حصول نيته فهو نوع جنون . فإنما علم الإنسان بحال نفسه أمر يقيني . فكيف يشك فيه عاقل من نفسه ؟ ومن قام ليصلي صلاة الظهر خلف الإمام فكيف يشك في ذلك ؟ ولو دعاه داع إلى شغل في تلك الحال لقال : إني مشتغل أريد صلاة الظهر ، ولو قال قائل في وقت خروجه إلى الصلاة : أين تمضي ؟ لقال : أريد صلاة الظهر مع الإمام ، فكيف يشك عاقل في هذا من نفسه وهو يعلمه يقينا ؟
بل أعجب من هذا كله أن غيره يعلم بنيته بقرائن الأحوال ، فإنه إذا رأى إنسانا جالسا في الصف في وقت الصلاة عند اجتماع الناس علم أنه ينتظر الصلاة . وإذا رآه قد قام عند إقامتها ونهوض الناس إليها، علم أنه إنما قام ليصلي . فإن تقدم بين يدي المأمومين علم أنه يريد إمامتهم . فإن رآه في الصف علم أنه يريد الائتمام .
قال : فإذا كان غيره يعلم نيته الباطنة بما ظهر من قرائن الأحوال ، فكيف يجهلها من نفسه ، مع اطلاعه هو على باطنه ؟ فقبوله من الشيطان أنه ما نوى تصديق له في جحد العيان، وإنكار الحقائق المعلومة يقينا، ومخالفة للشرع، ورغبة عن السنة ، وعن طريق الصحابة .
ثم إن النية الحاصلة لا يمكن تحصيلها ، والموجودة لا يمكن إيجادها ، لأن من شرط إيجاد الشيء كونه معدوما ، فإن إيجاد الموجود محال ، وإذا كان كذلك فما يحصل له بوقوفه شيء ، ولو وقف ألف عام .
قال : ومن العجب أنه يتوسوس حال قيامه ، حتى يركع الإمام ، فإذا خشي فوات الركوع كبر سريعا وأدركه . فمن لم يحصل النية في الوقوف الطويل حال فراغ باله كيف يحصلها في الوقت الضيق مع شغل باله بفوات الركعة ؟
ثم ما يطلبه إما أن يكون سهلا أو عسيرا ، فإن كان سهلا فكيف يعسره ؟ وإن كان عسيرا فكيف تيسر عند ركوع الإمام سواء ؟ وكيف خفي ذلك على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وصحابته من أولهم إلى آخرهم ، والتابعين ومن بعدهم ؟ وكيف لم ينتبه له سوى من استحوذ عليه الشيطان ، أفيظن بجهله أن الشيطان ناصح له ؟ أما علم أنه لا يدعو إلى هدى، ولا يهدي إلى خير؟ وكيف يقول في صلاة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وسائر المسلمين الذين لم يفعلوا فعل هذا الموسوس ؟ أهي ناقصة عنده مفضولة، أم هي التامة الفاضلة ، فما دعاه إلى مخالفتهم والرغبة عن طريقهم ؟
فإن قال : هذا مرض بليت به . قلنا : نعم سببه قبولك من الشيطان، ولم يعذر الله تعالى أحدا بذلك . ألا ترى أن آدم وحواء لما وسوس لهما الشيطان فقبلا منه أخرجا من الجنة ، ونودي عليهما بما سمعت، وهما أقرب إلى العذر، لأنهما لم يتقدم قبلهما من يعتبران به، وأنت قد سمعت وحذرك الله تعالى من فتنته ، وبين لك عداوته ، وأوضح لك الطريق ، فما لك عذر ولا حجة في ترك السنة والقبول من الشيطان .
قلت : قال شيخنا : ومن هؤلاء من يأتي بعشر بدع لم يفعل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولا أحد من أصحابه واحدة منها ، فيقول : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم . نويت أصلي صلاة الظهر فريضه الوقت، أداء الله تعالى ، إماما أو مأموما، أربع ركعات ، مستقبل القبلة ، ثم يزعج أعضاءه ويحني جبهته ويقيم عروق عنقه ، ويصرخ بالتكبير ، كأنه يكبر على العدو . ولو مكث أحدهم عمر نوح عليه السلام يفتش : هل فعل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أو أحد من أصحابه شيئا من ذلك ، لما ظفر به ، إلا أن يجاهر بالكذب البحت .
فلو كان في هذا خير لسبقونا إليه ، ولدلونا عليه . فإن كان هذا هدى فقد ضلوا عنه ، وإن كان الذي كانوا عليه هو الهدى والحق فماذا بعد الحق إلا الضلال ؟!
قال : ومن أصناف الوسواس ما يفسد الصلاة ، مثل تكرير بعض الكلمة ، كقوله في التحيات : ات ات ، التحي التحي ، وفي السلام : أس أس . وقوله في التكبير : أكككبر ونحو ذلك ، فهذا الظاهر بطلان الصلاة به، وربما كان إماما فأفسد صلاة المأمومين ، وصارت الصلاة التي هي أكبر الطاعات أعظم إبعادا له عن الله من الكبائر ، وما لم تبطل به الصلاة من ذلك فمكروه وعدول عن السنة، ورغبة عن طريقة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهديه، وما كان عليه أصحابه، وربما رفع صوته بذلك فآذى سامعيه ، وأغرى الناس بذمه والوقيعة فيه ، فجمع على نفسه طاعة إبليس ومخالفة السنة ، وارتكاب شر الأمور ومحدثاتها ، وتعذيب نفسه وإضاعة الوقت ، والاشتغال بما ينقص أجره ، وفوات ما هو أنفع له ، وتعريض نفسه لطعن الناس فيه ، وتغرير الجاهل بالأقتداء به ، فإنه يقول : لولا أن ذلك فضل لما اختاره لنفسه ، وأساء الظن بما جاءت به السنة ، وأنه لا يكفي وحده ، وانفعال النفس وضعفها للشيطان، حتى يشتد طمعه فيه وتعريضه نفسه للتشديد عليه بالقدر، عقوبة له ، وإقامته على الجهل ، ورضاه بالخبل في العقل ، كما قال أبو حامد الغزالي وغيره ، الوسوسة سببها إما جهل بالشرع وإما خبل في العقل، وكلاهما من أعظم النقائص والعيوب .
فهذه نحو خمسة عشر مفسدة في الوسواس ، ومفاسده أضعاف ذلك بكثير .
وقد روى مسلم في صحيحه من حديث عثمان بن أبي العاص قال : قلت :  يا رسول الله، إن الشيطان قد حال بيي وبين صلاتي يلبسها علي ، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : " ذاك شيطان يقال له خنزب ، فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه ، واتفل عن يسارك ثلاثا ، ففعلت ذلك ، فاذهبه الله تعالى عني "  .
فأهل الوسواس قرة عين خنزب وأصحابه ، نعوذ بالله عز وجل منه .

فصل في الإسراف بماء الوضوء

ومن ذلك الإسراف في ماء الوضوء والغسل .
وقد روى أحمد في مسنده من حديث عبد الله بن عمرو : " أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مر بسعد وهو يتوضأ، فقال : لاتسرف ، فقال : يا رسول الله ... أوفي الماء إسراف ؟ قال : نعم ، وإن كنت على نهر جار " .
وفي جامع الترمذي من حديث أبي بن كعب : أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : " إن للوضوء شيطانا يقال له الولهان، فاتقوا وسواس الماء " .
وفي المسند والسنن من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : " جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يسأله عن الوضوء ، فأراه ثلاثا ثلاثا، وقال : هذا الوضوء فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم " .
وفي كتاب الشافي لأبي بكر عبد العزيز من حديث أم سعد قالت : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : " يجزىء من الوضوء مد، والغسل صاع . وسيأتي قوم يستقلون ذلك، فأولئك خلاف أهل سنتي، والآخذ بسنتي في حظيرة القدس متنزه أهل الجنة " .
وفي سنن الأثرم من حديث سالم بن أبي الجعد عن جابر بن عبد الله قال :  يجزىء من الوضوء المد ومن الغسل من الجنابة الصاع، فقال رجل : ما يكفيني ، فغضب جابر حتى تربد وجهه ، ثم قال : قد كفى من هو خير منك وأكثر شعرا  .
وقد رواه الإمام أحمد في مسنده مرفوعا ، ولفظه عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : " يجزىء من الغسل الصاع ومن الوضوء المد " .
وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها :  أنها كانت تغتسل هي والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم من إناء واحد يسع ثلاثة أمداد ، أو قريبا من ذلك  .
وفي سنن النسائي عن عبيد بن عمير:  أن عائشة رضي الله عنها قالت : لقد رأيتني أغتسل أنا ورسول الله من هذا - فإذا تور موضوع مثل الصاع أو دونه - نشرع فيه جميعا ، فأقيض بيدي على رأسي ثلاث مرات ، وما أنقض لي شعرا  .
وفي سنن أبي داود والنسائي عن عباد بن تميم عن أم عمارة بنت كعب أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : " توضأ ، فأتى بماء في إناء قدر ثلثي المد " .
وقال عبد الرحمن بن عطاء : سمعت سعيد بن المسيب يقول :  إن لي ركوة أوقدحا ، ما يسع إلا نصف المد أو نحوه ، أبول ثم أتوضا منه ، وأفضل منه فضلا  قال عبدالرحمن : فذكرت ذلك لسليمان بن يسار فقال :  وأنا يكفيني مثل ذلك  قال عبد الرحمن : فذكرت ذلك لأبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر فقال :  وهكذا سمعنا من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم  رواه الأثرم في سننه .
وقال إبراهيم النخعي :  كانوا أشد استيفاء للماء منكم ، وكانوا يرون أن ربع المد يجزىء من الوضوء  .
وهذا مبالغة عظيمة ، فإن ربع المد لا يبلغ أوقية ونصفا بالدمشقي .
وفي الصحيحين عن أنس قال : " كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد " .
وفي صحيح مسلم عن سفينة قال : " كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يغسله الصاع من الجنابة ، ويوضئه المد " .
وتوضأ القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق بقدر نصف المد أو أزيد بقليل .
وقال إبراهيم النخعي :  إني لأتوضا من كوزالحب مرتين  .
وقال محمد بن عجلان :  الفقه في دين الله إسباغ الوضوء وقلة إهراق الماء  .
وقال الإمام أحمد :  كان يقال : من قلة فقه الرجل ولعه بالماء  .
وقال الميموني :  كنت أتوضا بماء كثير، فقال لي أحمد : يا أبا الحسن ، أترضى أن تكون كذا ؟ فتركته .
وقال عبد الله بن أحمد :  قلت لأبي : إني لاكثر الوضوء، فنهاني عن ذلك ، وقال : يا بني ، يقال : إن للوضوء شيطانا يقال له الولهان . قال لي ذلك غير مرة ، ينهاني عن كثرة صب الماء ، وقال لي : أقلل من هذا الماء يا بني  .
وقال إسحاق بن منصور :  قلت لأحمد : نزيد على ثلاث في الوضوء ؟ فقال : لا والله إلا رجل مبتلى  .
وقال أسود بن سالم - الرجل الصالح شيخ الإمام أحمد :  كنت مبتلى بالوضوء ، فنزلت دجلة أتوضأ ، فسمعت هاتفا يقول : يا أسود، يحيى عن سعيد  الوضوء ثلاث ، ما كان أكثر لم يرفع ، فالتفت فلم أر أحدا  .
وقد روى أبو داوود في سننه من حديث عبد الله بن مغفل قال : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول : " سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء " .
فإذا قرنت هذا الحديث بقوله تعالى " إنه لا يحب المعتدين " وعلمت أن الله يحب عبادته، أنتج لك من هذا أن وضوء الموسوس ليس بعبادة يقبلها الله تعالى ، وإن أسقطت الفرض عنه ، فلا تفتح أبواب الجنة الثمانية لوضوئه يدخل من أيها شاء .
ومن مفاسد الوسواس : أنه يشغل ذمته بالزائد على حاجته، إذا كان الماء مملوكا لغيره كماء الحمام ، فيخرج منه وهو مرتهن الذمة بما زاد على حاجته ، ويتطاول عليه الدين حتى يرتهن من ذلك بشيء كثير جدا يتضرر به في البرزخ ويوم القيامة .

 

فصل في وسوسة انتقاض الطهارة

ومن ذلك الوسواس في انتقاض الطهارة لا يلتفت إليه .
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : " إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا فأشكل عليه : أخرج منه شيء أم لا ؟ فلا يخرج من المسجد حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا " .
وفي الصحيحين عن عبد الله بن زيد قال : " شكي إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة ، قال : لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا " .
وفي المسند وسنن أبي داوود عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : " إن الشيطان يأتي أحدكم وهو في الصلاة فيأخذ بشعرة من دبره فيمدها ، فيرى أنه قد أحدث ، فلا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا " ولفظ أبي داوود : " إذا أتى الشيطان أحدكم فقال له : إنك قد أحدثت ، فليقل له : كذبت ، إلا ما وجد ريحا بأنفه ، أو سمع صوتا بأذنه " .
فأمر عليه الصلاة والسلام بتكذيب الشيطان فيما يحتمل صدقه فيه ، فكيف إذا كان كذبه معلوما متيقنا ، كقوله للموسوس : لم تفعل كذا ، وقد فعله ؟ .
قال الشيخ أبو محمد : ويستحب للانسان أن ينضح فرجه وسراويله بالماء إذا بال ، ليدفع عن نفسه الوسوسة، فمتى وجد بللا قال : هذا من الماء الذي نضحته ، لما روى أبو داوود بإسناده عن سفيان بن الحكم الثقفي ، أو الحكم بن سفيان قال : " كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إدا بال توضأ وينتضح " وفي رواية : " رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بال ثم نضح فرجه " وكان ابن عمر ينضح فرجه حتى يبل سراويله .
وشكا إلى الإمام أحمد بعض أصحابه أنه يجد البلل بعد الوضوء، فأمره أن ينضح فرجه إذا بال ، قال : ولا تجعل ذلك من همتك واله عنه .
وسئل الحسن أو غيره عن مثل هذا فقال :  أله عنه  فأعاد عليه المسألة فقال :  أتستدره لا أب لك ، اله عنه  .

فصل في ما يفعله الموسوسين

ومن هذا ما يفعله كثير من الموسوسين بعد البول وهو عشرة أشياء : السلت، والنتر، والنحنحة ، والمشي ، والقفز ، والحبل ، والتفقد ، والوجور ، والحشو ، والعصابة ، والدرجة .
أمل السلت فيسلته من أصله إلى رأسه ، على أنه قد روي في ذلك حديث غريب لا يثبت ، ففي المسند وسنن ابن ماجة عن عيسى بن داوود عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : " إذا بال أحدكم فليمسح ذكره ثلاث مرات " .
وقال جابر بن زيد :  إذا بلت فامسح أسفل ذكرك فإنه ينقطع  رواه سعيد عنه .
قالوا : ولأنه بالسلت والنتر يستخرج ما يخشى عوده بعد الاستنجاء .
قالوا : وإن احتاج إلى مشي خطوات لذلك ففعل فقد أحسن، والنحنحة ليستخرج الفضلة . وكذلك القفز يرتفع عن الأرض شيئا ثم يجلس بسرعة . والحبل يتخذ بعضهم حبلا يتعلق به حتى يكاد يرتفع ، ثم ينخرط منه حتى يقعد ، والتفقد يمسك الذكر ثم ينظر في المخرج هل بقي فيه شيء أم لا، والوجور يمسكه ثم يفتح الثقب ويصب فيه الماء ، والحشو يكون معه ميل وقطن يحشوه به كما يحشو الدمل بعد فتحها، والعصابة يعصبه بخرقة، والدرجة يصعد في سلم قليلا ثم ينزل بسرعة ، والمشي يمشي خطوات ثم يعيد الاستجمار .
قال شيخنا : وذلك كله وسواس وبدعة ، فراجعته في السلت والنتر فلم يره ، وقال : لم يصح الحديث ، قال : والبول كاللبن في الضرع إن تركته قر وإن حلبته در .
قال : ومن اعتاد ذلك ابتلى منه بما عوفي منه من لها عنه .
قال : ولو كان هذا سنة لكان أولى الناس به رسول الله عليه الصلاة والسلام وأصحابه وقد قال اليهودي لسلمان :  لقد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخرأة ، فقال : أجل  فأين علمنا نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك أو شيئا منه ؟ بلى علم المستحاضة أن تتلجم ، وعلى قياسها من به سلس البول أن يتحفظ ، ويشد عليه خرقة .

فصل في تسهيل الأشياء

ومن ذلك أشياء سهل فيها المبعوث بالحنيفية السمحة فشدد فيها هؤلاء .
فمن ذلك المشي حافيا في الطرقات ، ثم يصلي ولا يغسل رجليه ، فقد روى أبو داوود في سننه : عن امرأة من بني عبد الأشهل قالت : " قلت : يا رسول الله ، إن لنا طريقا إلى المسجد منتنة ، فكيف نفعل إذا تطهرنا ؟ قال : أو ليس بعدها طريق أطيب منها ؟ قالت : بلى . قال : فهذه بهذه " .
وقال عبد الله بن مسعود :  كنا لانتوضأ من موطىء  .
وعن علي رضي الله عنه : أنه خاض في طين المطر، ثم دخل المسجد فصلى ، ولم يغسل رجليه .
وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن الرجل يطأ العذرة ؟ قال :  إن كانت يابسة فليس بشيء ، وإن كانت رطبة غسل ما أصابه  .
وقال حفص :  أقبلت مع عبد الله بن عمر عامدين إلى المسجد . فلما انتهينا عدلت إلى المطهرة لأغسل قدمي من شيء أصابهما، فقال عبد الله : لا تفعل ، فإنك تطأ الموطىء الرديء ، ثم تطأ بعده الموطىء الطيب - أو قال : النظيف - فيكون ذلك طهورا ، فدخلنا المسجد جميعا فصلينا  .
وقال أبو الشعثاء :  كان ابن عمر يمشي بمنى في الفروث والدماء اليابسة حافيا ، ثم يدخل المسجد فيصلي فيه ، ولا يغسل قدميه  .
وقال عمران بن حدير:  كنت أمشي مع أبي مجلز إلى الجمعة، وفي الطريق عذرات يابسة ، فجعل يتخطاها ويقول : ما هذه إلا سودات ، ثم جاء حافيا إلى المسجد فصلى ، ولم يغسل قدميه  .
وقال عاصم الأحول :  أتينا أبا العالية فدعونا بوضؤ فقال : ما لكم، ألستم متوضئين ؟ قلنا : بلى ، ولكن هذه الأقذار التى مررنا بها ؟ قال : هل وطئتم على شيء رطب تعلق بأرجلكم ؟ قلنا : لا . فقال : فكيف بأشد من هذه الأقذار يجف فينسفها الريح في رؤوسكم ولحاكم  ؟

فصل في خلع النعال

ومن ذلك أن الخف والحذاء إذا أصابت النجاسة أسفله أجزء دلكه بالأرض مطلقا ، وجازت الصلاة فيه بالسنة الثابتة . نص عليه أحمد، وأختاره المحققون من أصحابه .
قال أبو البركات : ورواية :  إجزاء الدلك مطلقا  هي الصحيحة عندي، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال : "إذا وطىء أحدكم بنعله الأذى فإن التراب له طهور" ، وفي لفظ : " إذا وطىء أحدكم الأذى بخفيه فطهورهما التراب " رواهما أبو داوود .
وروى أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : " صلى فخلع نعليه فخلع الناس نعالهم ، فلما انصرف قال : لم خلعتم ؟ قالوا : يا رسول الله ، رأيناك خلعت فخلعنا ، فقال : إن جبريل أتاني فأخبرني أن بهما خبثا ، فإذا جاء أحدكم المسجد فليقلب نعليه ، ثم ينظر فإن رأى خبثا فليمسحه بالأرض ، ثم ليصل فيها " رواه الإمام أحمد .
وتأويل ذلك : على ما يستقذر من مخاط أو نحوه من الطاهرات لا يصح ، لوجوه :
أحدها : أن ذلك لا يسمى خبثا .
الثاني : أن ذلك لا يؤمر بمسحه عند الصلاة فإنه لا يبطلها .
الثالث : أنه لا تخلع النعل لذلك في الصلاة ، فإنه عمل لغير حاجة ، فأقل أحواله الكراهة .
الرابع : أن الدارقطني روى في سننه في حديث الخلع من رواية ابن عباس : أن النبي عليه الصلاة والسلام قال : " إن جبريل أتاني ، فأخبرني أن فيهما دم حلمة " والحلم كبار القراد .
ولأنه محل يتكرر ملاقاته للنجاسة غالبا ، فأجزأ مسحه بالجامد ، كمحل الاستجمار ، بل أولى . فإن محل الاستجمار يلاقي النجاسة في اليوم مرتين أو ثلاثا .

فصل في ذيل المرأة

وكذلك ذيل المرأة على الصحيح، وقالت امرأة لأم سلمة :  إني أطيل ذيلي وأمشي في المكان القذر. فقالت : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : " يطهره ما بعده " رواه أحمد وأبو داوود
وقد رخص النبي عليه الصلاة والسلام للمرأة أن ترخي ذيلها ذراعا، ومعلوم أنه يصيب القذر ولم يأمرها بغسل ذلك ، بل أفتاهن بأنه تطهره الأرض .

فصل في ما لا يصيب قلوب الموسوسين

ومما لا تطيب به قلوب الموسوسين : الصلاة في النعال . وهي سنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وأصحابه ، فعلا منه وأمرا .
فروى أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : " كان يصلي في نعليه " متفق عليه .
وعن شداد بن أوس قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : " خالفوا اليهود ، فإنهم لا يصلون في خفافهم ولا نعالهم " رواه أبو داوود .
وقيل للإمام أحمد : أيصلي الرجل في نعليه ؟ فقال :  أي والله  .
وترى أهل الوسواس - إذا بلي أحدهم بصلاة الجنازة في نعليه - قام على عقيبهما كأنه واقف على الجمر، حتى لا يصلي فيهما .
وفي حديث أبي سعيد الخدري : " إذا جاء أحدكم المسجد فلينظر ، فإن رأى على نعليه قذرا فليمسحه ، وليصل فيهما " .

فصل في الصلاة بأي مكان

ومن ذلك : أن سنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : الصلاة حيث كان ، وفي أي مكان اتفق ، سوى ما نهى عنه من المقبرة ، والحمام وأعطان الإبل ، فصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : " جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فحيثما أدركت رجلا من أمتي الصلاة فليصل " وكان يصلي في مرابض الغنم ، وأمر بذلك ، ولم يشترط حائلا .
قال ابن المنذر : أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على إباحة الصلاة في مرابض الغنم ، إلا الشافعي . فإنه قال : أكره ذلك ، إلا إذا كان سليما من أبعارها .
وقال أبو هريرة رضي الله عنه : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : " صلوا في مرابض الغنم ، ولا تصلوا في أعطان الابل " رواه الترمنري وقال : حديث حسن صحيح .
وروى الإمام أحمد من حديث عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : " صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الابل - أو مبارك الإبل " .
وفي المسند أيضا ، من حديث عبد الله بن المغفل قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : " صلوا في مرابض الغنم ولاتصلوا في أعطان الابل ، فإنها خلقت من الشياطين " .
وفي الباب عن جابر بن سمرة، والبراء بن عازب ، وأسيد بن الحضير وذي الغرة ، كلهم رووا عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : " صلوا في مرابض الغنم " وفي بعض ألفاظ الحديث : " صلوا في مرابض الغنم ، فإن فيها بركة " .
وقال : " الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام " رواه أهل السنن كلهم ، إلا النسائي .
فاين هذا الهدى من فعل من لا يصلي إلا على سجادة تفرش فوق البساط فوق الحصير، ويضع عليها المنديل ، ولا يمشي على الحصير ولا على البساط ، بل يمشي عليها نقرا كالعصفور ؟ فما أحق هؤلاء بقول ابن مسعود:  لأنتم أهدى من أصحاب محمد أو أنتم على شعبة ضلالة  .
وقد صلى النبي عليه الصلاة والسلام على حصير قد أسود من طول ما لبس ، فنضح له بالماء وصلى عليه، ولم يفرش له فوقه سجادة ولا منديل، وكان يسجد على التراب تارة وعلى الحصا تارة، وفي الطين تارة ، حتى يرى أثره على جبهته وأنفه .
وقال ابن عمر :  كانت الكلاب تقبل وتدبر وتبول في المسجد ، ولم يكونوا يرشون شيئا من ذلك  رواه البخاري ، ولم يقل  وتبول  وهو عند أبي داوود بإسناد صحيح بهذه الزيادة .

فصل في وضوء الصحابة والتابعين

ومن ذلك : أن الصحابة والتابعين كانوا يتوضئون من الحياض والأواني المكشوفة ، ولا يسألون : هل أصابتها نجاسة، أو وردها كلب أو سبع ؟ ففي الموطأ عن يحيى بن سعيد :  إن عمر رضي الله عنه خرج في ركب فيهم عمرو بن العاص، حتى وردوا حوضا ، فقال عمرو : يا صاحب الحوض ، هل ترد حوضك السباع ؟ فقال عمر رضي الله عنه : لا تخبرنا . فإنا نرد على السباع وترد علينا  .
وفي سنن ابن ماجة أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم سئل : " أنتوضأ بما أفضلت الحمر ؟ قال : نعم ، وبما أفضلت السباع " .

ومن ذلك : أنه لو سقط عليه شيء من ميزاب ، لا يدري هل هو ماء أو بول . لم يجب عليه أن يسأل عنه . فلو سأل لم يجب على المسؤول أن يجيبه ، ولو علم أنه نجس ، ولا يجب عليه غسل ذلك .

ومر عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوما ، فسقط عليه شيء من ميزاب ، ومعه صاحب له . فقال :  يا صاحب الميزاب ماؤك طاهرأو نجس ؟ فقال عمر رضي الله عنه : يا صاحب الميزاب لا تخبرنا ، ومضى  ذكره أحمد .
قال شيخنا : وكذلك إذا أصاب رجله أو ذيله بالليل شيء رطب ولا يعلم ما هو، لم يجب عليه أن يشمه ويتعرف ما هو . واحتج بقصة عمر رضي الله عنه في الميزاب . وهذا هو الفقه فإن الأحكام إنما تترتب على المكلف بعد علمه بأسبابها ، وقبل ذلك هي على العفو . فما عفا الله عنه فلا ينبغي البحث عنه .

فصل في الصلاة بالدم

ومن ذلك : الصلاة مع يسيرالدم ، ولا يعيد .
قال البخاري : قال الحسن رحمه الله :  ما زال المسلمون يصلون في جراحاتهم  .
قال : وعصر ابن عمر رضي الله عنه بثرة ، فخرج منها دم فلم يتوضأ . وبصق ابن أبي أوفى دما ومضى في صلاته . وصلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وجرحه يثغب دما  .
ومن ذلك : أن المراضع ما زلن من عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وإلى الآن يصلين في ثيابهن ، والرضعاء يتقيئون ويسيل لعابهم على ثياب المرضعة وبدنها ، فلا يغسلن شيئا من ذلك ، لأن ريق الرضيع مطهر لفمه ، لأجل الحاجة ، كما أن ريق الهرة مطهر لفمها .
وقد قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : " إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم والطوافات " " وكان يصغي لها الإناء حتى تشرب " وكذلك فعل أبو قتادة . مع العلم اليقيني أنها تأكل الفأر والحشرات ، والعلم القطعي أنه لم يكن بالمدينة حياض فوق القلتين تردها السنانير وكلاهما معلوم قطعا .
ومن ذلك : أن الصحابة ومن بعدهم كانوا يصلون وهم حاملو سيوفهم ، وقد أصابها الدم ، وكانوا يمسحونها ، ويجتزئون بذلك
وعلى قياس هذا : مسح المرآة الصقيلة إذا أصابتها النجاسة ، فإنه يطهرها .
وقد نص أحمد على طهارة سكين الجزار بمسحها .
ومن ذلك : أنه نص على حبل الغسال أنه ينشر عليه الثوب النجس ، ثم تجففه الشمس ، فينشر عليه الثوب الطاهر . فقال : لا بأس به . وهذا كقول أبي حنيفة : إن الأرض النجسة يطهرها الريح والشمس . وهو وجه لأصحاب أحمد ، حتى إنه يجوز التيمم بها . وحديث ابن عمر رضي الله عنهما كالنص في ذلك . وهو قوله : كانت الكلاب تقبل وتدبر وتبول في المسجد ولم يكونوا يرشون شيئا من ذلك .
وهذا لا يتوجه إلا على القول بطهارة الأرض بالريح والشمس .
ومن ذلك : أن الذي دلت عليه سنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وآثار أصحابه : أن الماء لا ينجس إلا بالتغير ، وإن كان يسيرا .
وهذا قول أهل المدينة وجمهور السلف ، وأكثر أهل الحديث . وبه أفتى عطاء بن أبي رباح ، وسعيد بن المسيب ، وجابر بن زيد والأوزاعي ، وسفيان الثوري ، ومالك بن أنس ، وعبد الرحمن بن مهدي ، وأختاره ابن المنذر . وبه قال أهل الظاهر . ونص عليه أحمد في إحدى روايتيه . واختاره جماعة من أصحابنا ، منهم ابن عقيل في مفرداته ، وشيخنا أبوالعباس ، وشيخه ابن أبي عمر .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : " الماء لا ينجسه شيء " رواه الإمام أحمد .
وفي المسند والسنن عن أبي سعيد قال : " قيل : يا رسول الله ... أنتوضأ من بئر بضاعة ؟ - وهي بئر يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن - ففال : الماء طهور، لا ينجسه شيء " قال الترمذي : هذا حديث حسن ، وقال الإمام أحمد : حديث بئر بضاعة صحيح .
وفي لفظ الإمام أحمد :  إنه يستقي لك من بئر بضاعة ، وهي بئر يطرح فيها محايض النساء، ولحم الكلاب ، وعذر الناس ؟ فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : " إن الماء طهور لا ينجسه شيء " .
وفي سنن ابن ماجة من حديث أبي أمامة مرفوعا : " الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه ، أو طعمه ، أو لونه " .
وفيها من حديث أبي سعيد : " أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم :  سئل عن الحياض التي بين مكة والمدينة ، تردها السباع والكلاب والحمر ، وعن الطهارة بها ؟ فقال : لها ما حملت في بطونها ولنا ما غبر طهور " .
وإن كان في إسناد هذين الحديثين مقال ، فإنا ذكرناهما للاستشهاد لا للاعتماد .
وقال البخاري : قال الزهري :  لا بأس بالماء ما لم يتغير منه طعم أو ريح أو لون  .
وقال الزهري أيضا :  إذا ولغ الكلب في الإناء ليس له وضوء غيره يتوضأ به ثم يتيمم  .
قال سفيان :  هذا الفقه بعينه ، يقول الله تعالى : " فلم تجدوا ماء فتيمموا " ، وهذا ماء ، وفي النفس منه شيء يتوضأ به ثم يتيمم  . ونص أحمد رحمه الله :  في حب زيت ولغ فيه كلب فقال : يؤكل  .

فصل في الوسوسة من مخارج الحروف

ومن ذلك الوسوسة في مخارج الحروف والتنطع فيها .
ونحن نذكر ما ذكره العلماء بألفاظهم :
قال أبو الفرج بن الجوزي : قد لبس إبليس على بعض المصلين في مخارج الحروف ، فتراه يقول : الحمد ، الحمد . فيخرج بإعادة الكلمة عن قانون أدب الصلاة . وتارة يلبس عليه في تحقيق التشديد في إخراج ضاد  المغضوب  قال : ولقد رأيت من يخرج بصاقه مع إخراج الضاد لقوة تشديده . والمراد تحقيق الحرف حسب . وإبليس يخرج هؤلاء بالزيادة عن حد التحقيق ، ويشغلهم بالمبالغة في الحروف عن فهم التلاوة . وكل هذه الوساوس من إبليس .
وقال محمد بن قتيبة في مشكل القرآن : وقد كان الناس يقرأون القرآن بلغاتهم ، ثم خلف من بعدهم قوم من أهل الأمصار وأبناء العجم ليس لهم طبع اللغة ، ولا علم التكلف ، فهفوا في كثير من الحروف . وذلوا فأخلوا . ومنهم رجل ستر الله عليه عند العوام بالصلاح ، وقربه من القلوب بالدين . فلم أر فيمن تتبعت في وجوه قراءته أكثر تخليطا ولا أشد اضطرابا منه ، لأنه يستعمل في الحرف ما يدعه في نظيره ثم يؤصل أصلا ويخالف إلى غيره بغير علة ، ويختار في كثير من الحروف مالا مخرج له إلا على طلب الحيلة الضعيفة ، هذا إلى نبذه في قراءته مذاهب العرب وأهل الحجاز ، بإفراطه في المد والهمز والإشباع ، وإفحاشه في الإضجاع والإدغام ، وحمله المتعلمين على المذهب الصعب، وتعسيره على الأمة ما يسره الله تعالى ، وتضييقه ما فسحه . ومن العجب أن يقرىء الناس بهذه المذاهب ، ويكره الصلاة بها . ففي أي موضع يستعمل هذه القراءة ، إن كانت الصلاة لا تجوز بها ؟ وكان ابن عيينة يرى لمن قرأ في صلاته بحرفه ، أو ائتم بإمام يقرأ بقراءته أن يعيد ، ووافقه على ذلك كثير من خيار المسلمين ، منهم بشر بن الحارث ، وللإمام أحمد بن حنبل ، وقد شغف بقراءته عوام الناس وسوقتهم ، وليس ذلك إلا لما يرونه من مشقتها وصعوبتها ، وطول إختلاف المتعلم إلى المقرىء فيها . فإذا رأره قد إختلف في أم الكتاب عشرا ، وفي مائة آية شهرا ، وفي السبع الطوال حولا . ورأوه عند قراءته مائل الشدقين ، دار الوريدين ، راشح الجبين ، توهموا أن ذلك لفضله في القراءة وحذقه بها، وليس هكذا كانت قراءة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ، ولا خيار السلف ولا التابعين ، ولا القراء العالمين ، بل كانت سهلة رسلة .
وقال الخلال في الجامع : عن أبي عبد الله ، أنه قال :  لا أحب قراءة فلان  يعني هذا الذي أشار إليه ابن قتيبة ، وكرهها كراهية شديدة ، وجعل يعجب من قراءته ، وقال :  لا يعجبنى . فإن كان رجل يقبل منك فانهه  .
وحكي عن ابن المبارك عن الربيع بن أنس : أنه نهاه عنها .
وقال الفضل بن زياد : أن رجلا قال لأبي عبد الله : فما أترك من قراءته ؟ قال :  الإدغام ، والكسر ليس يعرف في لغة من لغات العرب  .
وسأله عبد الله ابنه عنها فقال :  أكره الكسر الشديد والإضجاع  .
وقال في موضع آخر :  إن لم يدغم ولم يضجع ذلك الإضجاع فلا بأس به  .
وسأله الحسن بن محمد بن الحارث : أتكره أن يتعلم الرجل تلك القراءة ؟ قال :  أكرهه أشد كراهة ، إنما هي قراءة محدثة . وكرهها شديدا حتى غضب  .
وروى عنه ابن سنيد أنه سئل عنها فقال :  أكرهها أشد الكراهية  قيل له : ما تكره منها ؟ قال :  هي قراءة محدثة . ما قرأ بها أحد  .
وروى جعفر بن محمد عنه أنه سئل عنها فكرهها . وقال :  كرهها ابن إدريس  وأراه قال :  وعبد الرحمن بن مهدي  . وقال :  ما أدري ، ايش هذه القراءة  ؟ ثم قال :  وقراءتهم ليست تشبه كلام العرب  .
وقال عبد الرحمن بن مهدي :  لو صليت خلف من يقرأ بها لأعدت الصلاة  .
ونص أحمد رحمه الله على أنه يعيد . وعنه رواية أخرى : أنه لا يعيد .
والمقصود : أن الأئمة كرهوا التنطع والغلو في النطق بالحرف .
ومن تأمل هدى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ، وإقراره أهل كل لسان على قراءتهم تبين له أن التنطع والتشدق والوسوسة في إخراج الحروف ليس من سنته .

فصل في الجواب عما احتج به أهل الوسواس

في الجواب ما احتج به أهل الوسواس

أما قولهم : إن ما نفعله احتياط لا وسواس .
قلنا : سموه ما شئتم . فنحن نسألكم : هل هو موافق لفعل رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وأمره ، وما كان عليه أصحايه ، أو مخالف ؟
فإن زعمتم أنه موافق ، فبهت وكذب صريح . فإذن لا بد من الإقرار بعدم موافقته ، وأنه مخالف له ، فلا ينفعكم تسمية ذلك احتياطا . وهذا نظير من ارتكب محظورا وسماه بغير اسمه ، كما يسمى الخمر بغير اسمها ، والربا معاملة ، والتحليل الذي لعن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فاعله : نكاحا ، ونقر الصلاة الذي أخبر رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أن فاعله لم يصل ، وأنه لا تجزيه صلاته ولا يقبلها الله تعالى منه : تخفيفا . فهكذا  تسمية الغلو في الدين والتنطع : احتياطا .
وينبغي أن يعلم أن الاحتياط الذي ينفع صاحبه ويثيبه الله عليه : الاحتياط في موافقة السنة ، وترك مخالفتها . فالاحتياط كل الاحتياط في ذلك ، وإلا فما احتاط لنفسه من خرج عن السنة ، بل ترك حقيقة الاحتياط في ذلك .
وكذلك المتسرعون إلى وقوع الطلاق في موارد النزاع الذي اختلف فيه الأئمة ، كطلاق المكره ، وطلاق السكران ، والبتة ، وجمع الثلاث ، والطلاق بمجرد النية ، والطلاق المؤجل المعلوم مجيء أجله ، واليمين بالطلاق ، وغير ذلك مما تنازع فيه العلماء إذا أوقعه المفتي تقليدا بغير برهان ، وقال : ذلك احتياط للفروج . فقد ترك معنى الاحتياط . فإنه يحرم الفرج على هذا ، ويبيحه لغيره . فأين الاحتياط ههنا ؟ بل لو أبقاه على حاله حتى تجمع الأمة على تحريمه وإخراجه عمن هو حلال له ، أو يأتي برهان من الله ورسوله على ذلك ، لكان قد عمل بالاحتياط . ونص على مثل ذلك الإمام أحمد في طلاق السكران .
فقال في رواية أبي طالب :  والذي لا يأمر بالطلاق فإنما أتى خصلة واحدة ، والذي يأمر بالطلاق فقد أتى خصلتين : حرمها عليه ، وأحلها لغيره  فهذا خير من هذا ، فلا يمكن الاحتياط في وقوع الطلاق إلا حيث أجمعت الأمة ، أو كان هناك نص عن الله ورسوله يجب المصير إليه .
قال شيخنا : والاحتياط حسن ، ما لم يفض بصاحبه إلى مخالفة السنة . فإذا أفضى إلى ذلك فالاحتياط ترك هذا الاحتياط .
وبهذا خرج الجواب عن احتجاجهم بقوله صلى الله عليه وسلم :  من ترك الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه  وقوله :  دع ما يريبك إلى مالا يريبك  وقوله : الإثم ما حاك في الصدر فهذا كله من أقوى الحجج على بطلان الوسواس .
فإن الشبهات ما يشبه فيه الحق بالباطل ، والحلال بالحرام ، على وجه لا يكون فيه دليل على أحد الجانبين ، أو تتعارض الأمارتان عنده ، فلا تترجح في ظنه إحداهما ، فيشتبه عليه هذا بهذا ، فأرشده النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إلى ترك المشتبه والعدول إلى الواضح الجلي .
ومعلوم أن غاية الوسواس أن يشتبه على صاحبه : هل هو طاعة وقربة، أم معصية وبدعة ؟ هذا أحسن أحواله ، والواضح الجلي هو اتباع طريق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، وما سنه للأمة قولا وعملا ، فمن أراد ترك الشبهات عدل عن ذلك المشتبه إلى هذا الواضح . فكيف ، ولا شبهة بحمد الله هناك ؟ إذ قد ثبت يالسنة أنه تنطع وغلو ، فالمصير إليه ترك للسنة ، وأخذ بالبدعة ، وترك لما يحبه الله تعالى ويرضاه ، وأخذ بما يكرهه ويبغضه ، ولا يتقرب به إليه البته ، فإنه لا يتقرب إليه إلا بما شرع ، لا بما يهواه العبد ويفعله من تلقاء نفسه . فهذا هو الذي يحيك في الصدر ويتردد في القلب ، وهو حواز القلوب .
وأما التمرة التي ترك رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أكلها ، وقال : " أخشى أن تكون من الصدقة " فذلك من باب اتقاء الشبهات ، وترك ما اشتبه فيه الحلال بالحرام . فإن التمرة كانت قد وجدها في بيته، وكان يؤتى بتمر الصدقة ، يقسمه على من تحل له الصدقة ، ويدخل بيته تمر يقتتات منه أهله ، فكان في بيته النوعان ، فلما وجد تلك التمرة لم يدر - عليه الصلاة والسلام - من أي النوعين هي ؟ فأمسك عن أكلها . فهذا الحديث أصل في الورع واتقاء الشبهات ، فما لأهل الوسواس وماله ؟ .
وأما قولكم : إن مالكا أفتى فيمن طلق ولم يدر: أواحدة طلق أم ثلاثا : إنها ثلاث احتياطا، فنعم ، هذا قول مالك ، فكان ماذا ؟ أفحجة هو على الشافعي ، وأبي حنيفة ، وأحمد ، وعلى كل من خالفه في هذه المسألة ؟ حتى يجب عليهم أن يتركوا قولهم لقوله . وهذا القول مما يحتج له ، لا مما يحتج به ، على أن هذا ليس من باب الوسواس في شيء ، وإنما حجة هذا القول : أن الطلاق يوجب تحريم الزوجة . والرجعة ترفع ذلك التحريم ، فهو يقول : قد تيقن سبب التحريم ، وهو الطلاق ، وشك في رفعه بالرجعة ، فإنه يحتمل أن يكون رجعيا فترفعه الرجعة ، ويحتمل أن يكون ثلاثا ، فلا ترفعه الرجعة ، فقد تيقن سبب التحريم ، وشك فيما يرفعه .
والجمهور يقولون : النكاح متيقن . والقاطع له المزيل لحل الفرج مشكوك فيه ، فإنه يحتمل أن يكون المأتى به رجعيا فلا يزيل النكاح . ويحتمل أن يكون بائنا فيزيله . فقد تيقنا يقين النكاح، وشككنا فيما يزيله. فالأصل بقاء النكاح حتى يتيقن بما يرفعه .
فإن قلتم : فقد تيقن التحريم وشك في التحيل ، قلنا : الرجعية ليست بحرام عندكم ، ولهذا تجوزون وطأها ، ويكون رجعة ، إذا نوى به الرجعة .
فإن قلتم : بل هي حرام ، والرجعة حصلت بالنية حال الوطء . قلنا : لا ينفعكم ذلك أيضا . فإنه إنما تيقن تحريما يزول بالرجعة، ولم يتيقن تحريما لا تؤثر فيه الرجعة .
وليس المقصود تقرير هذه المسألة . والمقصود أنه لا راحة في ذلك لأهل الوسواس .

فصل في عدم الاقتداء بالوسواس

وأما ما ذكرتموه عن ابن عمر، وأبي هريرة رضي الله عنهما فشيء تفردا به ، دون الصحابة ولم يوافق ابن عمر على ذلك أحد منهم ، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول :  إن بي وسواسا فلا تقتدوا بي  .
وظاهر مذهب الشافعي وأحمد : أن غسل داخل العينين في الوضوء لا يستحب ، وإن أمن الضرر . لأنه لم ينقل عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه فعله قط ، ولا أمر به ، وقد نقل وضوءه جماعة ، كعثمان ، وعلي ، وعبد الله بن زيد ، والربيع بن معوذ وغيرهم ، فلم يقل أحد منهم : أنه غسل داخل عينيه ، وفي وجوبه في الجنابة روايتان عن أحمد . أصحهما أنه لا يجب . وهو قول الجمهور. وعلى هذا فلا يجب غسلهما من النجاسة ، وأولى . لأن المضرة به أغلب ، لزيادة التكرار والمعالجة .
وقالت الشافعية والحنفية : يجب لأن إصابة النجاسة لهما تندر، فلا يشق غسلهما منها .
وغلا بعض الفقهاء من أصحاب أحمد ، فأوجب غسلهما في الوضوء . وهو قول لا يلتفت إليه ولا يعرج عليه . والصحيح أنه لا يجب غسلهما في وضوء ولا جنابة ولا من نجاسة .
وأما فعل أبي هريرة رضي الله عنه فهو شيء تأوله ، وخالفه فيه غيره ، وكانوا ينكرونه عليه ، وهذه المسألة تلقب بمسألة إطالة الغرة ، وإن كانت الغرة في الوجه خاصة .
وقد اختلف الفقهاء في ذلك ، وفيها روايتان عن الإمام أحمد .
إحداهما : يستحب إطالتها ، وبها قال أبو حنيفة والشافعي ، واختارها أبو البركات ابن تيمية وغيره .
والثانية : لا يستحب . وهي مذهب مالك ، وهي اختيار شيخنا أبي العباس .
فالمستحبون يحتجون بحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : " أنتم الغر المحجلون يوم القيامة من أثر الوضوء ، فمن استطاع منكم فليطل غرته وتحجيله " متفق عليه ، ولأن الحلية تبلغ من المؤمن حيث يبلغ الوضوء .
قال النافون للاستحباب : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : " إن الله حد حدودا فلا تعتدوها " والله سبحانه قد حد المرفقين والكعبين ، فلا ينبغي تعديهما ، ولأن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لم ينقل من نقل عنه وضوءه أنه تعداها ، ولأن ذلك أصل الوسواس ومادته ، ولأن فاعله إنما يفعله قربة وعبادة ، والعبادات مبناها على الاتباع ولأن ذلك ذريعة إلى الغسل إلى الفخذ ، وإلى الكتف . وهذا مما يعلم أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وأصحابه لم يفعلوه ولا مرة واحدة ، ولأن هذا من الغلو ، وقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم : " إياكم والغلو في الدين " ولأنه تعمق ، وهو منهى عنه ، ولأنه عضو من أعضاء الطهارة ، فكره مجاوزته كالوجه .
وأما الحديث فراويه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه نعيم المجمر . وقد قال :  لا أدري قوله  فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل  من قول رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ، أو من قول أبي هريرة رضي الله عنه  روى ذلك عنه الإمام أحمد في المسند .
وأما حديث الحلية ، فالحلية المزينة ما كان في محله، فإذا جاوزا محله لم يكن زينة .

فصل في التفريط والغلو

وأما قولكم : أن الوسواس خير مما عليه أهل التفريط والاسترسال، وتمشية الأمر كيف اتفق - إلى آخره .
فلعمر الله ، إنهما لطرفا إفراط وتفريط ، وغلو وتقصير، وزيادة ونقصان ، وقد نهى الله سبحانه وتعالى عن الأمرين في غير موضع . كقوله : " ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط " وقوله : " وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا " وقوله : " والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما " وقوله : " وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين " .
فدين الله بين الغالي فيه والجافي عنه . وخير الناس النمط الأوسط ، الذين ارتفعوا عن تقصير المفرطين ، ولم يلحقوا بغلو المعتدين، وقد جعل الله سبحانه هذه الأمة وسطا ، وهي الخيار العدل ، لتوسطها بين الطرفين المذمومين ، والعدل هو الوسط بين طرفي الجور والتفريط . والآفات إنما تتطرق إلى الأطراف ، والأوساط محمية بأطرافها . فخيار الأمور أوساطها . قال الشاعر :
 كانت هي الوسط المحمي، فاكتنفت     بها الحوادث حتى أصبحت طرفا .

  • Digg
  • Del.icio.us
  • StumbleUpon
  • Reddit
  • RSS

0 التعليقات:

إرسال تعليق